شرح السؤال:

من هو الروح القدس، ما هو عمله، لماذا هو الأقنوم الثالث، أي لماذا لم يكن هناك فقط الآب والابن. منذ صغرنا ونحن في مشكلة فهم للروح القدس وخاصة تخويفنا من "التجديف على الروح" فماذا كانوا يقصدون بالتجديف ولماذا تعتبر الخطيئة الوحيدة التي لا تغتفر؟

الإجابة:

سؤالك وشرحك للسؤال فيهم أسئلة كثيرة وللإجابة عليهم نحتاج إلى وقت كبير واستفاضة، لذلك سأحاول أن أجيب بشكل مختصر، وهذه الإجابة لا تُعتبر كافية للإلمام بكل جوانب الموضوع المطروح. فالموضوع من أصعب المواضيع التي يمكن التحدث عنها، ولكننا نستطيع الإحاطة به بطريقة سهلة نوعاً. 

نلاحظ أن الروح القدس ما زال مجهولاً بعض الشيء. وهذا أمر عاديّ. فالروح يأتي إلى العالم لا ليعرّف بنفسه، بل لكي يجعلنا نعرف المسيح ونحبّه. يأتي ليساعد البشر على العيش حسب الله.
من أجل هذا، ليس لنا صورة وافية تمثّل الروح القدس. أما العلامات والصور التي نجدها في الكتاب المقدّس فهي تشير بشكل جوهريّ إلى عمله في العالم وفي الكنيسة.
كان الروح بالنسبة إلى اليهود العائشين في زمن يسوع، قوّة الله الناشطة في العالم، قدرة إلهية تعمل في البشر لكي يتمّ فيهم عمل الفداء والمصالحة الذي يصل إلى ملئه في يسوع المسيح.
غير أن هناك نصوصاً في الأناجيل وأعمال الرسل ورسائل القديس بولس، تدلّ على أن الرسل في النهاية رأوا في الروح أكثر من قدرة إلهيّة. رأوا فيه شخصاً حياً. وكما نقول في اللاهوت: أقنوماً. وسوف تسمّيه الكنيسة في عقيدتها: الأقنوم الثالث في الثالوث الأقدس بعد الآب والابن.

إنّ اللقاء بين الآب والابن يتحقق في الروح القدس. في الروح، يسمع يسوع المسيح الآب يقول له: "أنت ابني" ويشعر بأنه موضوع سروره (مرقس 1 : 10). في الروح ، يبادل الابن الآب فرحه ( لوقا 10: 21- 22). وكما أن السيد المسيح لا يستطيع أن يتحد بالآب إلاّ في الروح. كذلك هو لا يستطيع أن يكشف عن الآب بدون أن يكشف عن الروح في الوقت نفسه. وإذ يكشف يسوع المسيح أن الروح أقنوم إلهي، فهو يكشف في الوقت عينه "أن الله روح" (يوحنا 4: 24)، مع كل المعاني التي يتضمنها هذا التعبير. 

وإذا كان الآب والابن يتحدان في الروح، هذا يعني أنها يتحدان ليجدا سعادتهما، لا في التمليك المتبادل، بل في البذل والعطاء. لأن اتحادهما هو هبة وينبوع هبة. ولكن إذا كان الروح الذي هو هبة يختم اتحاد الآب بالابن على هذا الشكل، فهذا يعني أن كيان كل منهما يقوم في هبة ذاته، وأن جوهرهما المشترك هو العطاء والوجود في الآخر، وقوة إيجاد الآخر. غير أن قوة الحياة هذه مع قوة المشاركة والحرية، هي الروح. بكلام آخر، إن كان الآب والابن متحدان بالمحبة، في البذل والعطاء، أي يُعطي كل واحد منهما ذاته للآخر، فالروح القدس هو حركة الحب بينهما.

الله روح: هذا يعني أنه في الوقت نفسه قادر بالمحبة على كل شيء ومستعدّ للعطاء بلا نهاية، إنه تأكيد مطلق لذاته الإلهية، وتحرر كامل من كل قيد. 

قولنا الله روح، لا يعني فقط أن ذاته الإلهية غير مادية فحسب، بل يعني هذا التحرر من كل الحواجز، ومن كل انطواء، وأن يكون دوماً، وفي كل لحظة، قوة حياة ومشاركة جديدة وكاملة.

إذا كان الروح القدس هو روح الله، فهو، منذ الخلق، موجود فينا ويعمل من خلالنا في كل مرَّة نسمح له بذلك. بهذا المعنى يقول لنا بولس الرسول في رسالة اليوم: "ما مِن أَحَدٍ، إِذا تَكلَّمَ بِإِلهامٍ مِن روحِ الله، يَقول: مَلْعونٌ يَسوع، ولا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَقول: يَسوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِإِلهامٍ مِنَ الرُّوحِ القُدُس". 

أي أنّ الروح القدس، حقيقتنا، إمكانياتنا، إن عشناها نحقق الوحدة، لأن الحقيقة توحد أمّا المزيف فيقسِّم. والخطيئة هي التي تخلق الانقسام في داخلنا وبيننا، وتبعدنا عن ذاتنا، وتجعلنا غرباء عنها. هذا هو عمل الروح القدس، يوحّدنا مع ذاتنا ومع الآخر، الله والإنسان.

فكرة التجديف على الروح القدس، هي بالفعل مخيفة، ولكن فقط لأولئك الذين يُكّذبون عمل الله، فالتجديف على الروح القدس يعني أن ننسب لله عملاً يُخالف حقيقته وجوهره، فمثلاً عندما نتهم الله بأنه يُجربنا بالشر أو يسمح بالتجربة أيّاً كانت هذه التجربة، أمرض أو موت أو مصيبة حصلت لنا..الخ، فإننا بذلك نعتبر الله، الذي هو محبة، فاعل شر، وهذا مخالف تماماً لحقيقة الله. وفي العهد الجديد، اتهم الفريسيون يسوع بأنه رئيس الشياطين عندما شفى رجلاً أخرس، وكان جواب يسوع واضحاً جداً بأن كل مملكة تنقسم على نفسها تخرب ولا تثبت.

من الممكن لنا ألّا نؤمن بالله وأن نفتري على يسوع، إلا أننا لا نستطيع أن نُكذب الروح القدس الذي يعمل فينا، لهذا فإن التجديف عليه هو خطيئة لا تُغتفر.

أعود لأذكّر بأن هذه الإجابة ما هي إلا عرض أولي جداً لموضوع الروح القدس، ولا بدّ من الإستفاضة والتعمق لسبر غور المفهوم الكبير الذي يحمله الروح القدس في حياتنا.