الأحد التاسع بعد العنصرة 

يسوع المسيح المعلّم المجنون 


الرسالة إلى العبرانيّين (12: 3-11) 

فتَأَمَّلُوا مَلِيًّا في ذلِكَ الَّذي ٱحْتَمَلَ مِثْلَ تِلْكَ المُقَاوَمَةِ لِشَخْصِهِ مِن قِبَلِ الخَطَأَة، لِئَلاَّ تَضْعَفُوا في نُفُوسِكُم وتَنْهَارُوا.

فَإِنَّكُم لَمْ تُقَاوِمُوا بَعْدُ حَتَّى الدَّمِ في جِهَادِكُم ضِدَّ الخَطِيئَة.

ونَسِيتُم كَلامَ التَّشْجِيعِ الَّذي يُخَاطِبُكُم كَمَا يُخَاطِبُ الأَبْنَاء: «يَا بُنَيّ، لا تَرذُلْ تَأْدِيبَ الرَّبّ، ولا تَسْأَمْ تَوبِيخَهُ.

فَإِنَّ الَّذي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، ويَجْلِدُ كُلَّ ٱبْنٍ يَرْتَضِيه».

إِذًا فَاحْتَمِلُوا تَأْدِيبَ الرَّبّ، فهوَ يُعامِلُكُم مُعَامَلَةَ الأَبْنَاء: وأَيُّ ٱبْنٍ لا يُؤَدِّبُهُ أَبُوه؟

ثُمَّ إِنَّ آباءَنَا في الجَسَدِ كانُوا يُؤَدِّبُونَنَا، فَنَخْجَلُ مِنْهُم. أَفَلا نَخْضَعُ بالأَحْرَى لأَبِي الأَروَاحِ فَنَحْيَا؟

أَمَّا إِذَا كُنتُم لا تَقْبَلُونَ التَّأْدِيب، الَّذي يَشْتَرِكُ فيهِ الجَمِيع، فَتَكُونُونَ دُخَلاءَ لا أَبْنَاء.

فأُولئِكَ كانُوا يُؤَدِّبُونَنَا لأَيَّامٍ قَلِيلَةٍ كَمَا يَشَاؤُون، أَمَّا اللهُ فَيُؤَدِّبُنَا لِفَائِدَتِنَا، لِكَي نَشْتَرِكَ في قَدَاسَتِهِ.

فَكُلُّ تَأْدِيبٍ لا يَبْدُو في سَاعَتِهِ أَنَّهُ لِلفَرَحِ بَلْ لِلحُزْن، أَمَّا في مَا بَعْدُ فَيُؤتِي الَّذِينَ تَرَوَّضُوا بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ وسَلام.

إنجيل القدّيس مرقس (3: 20-30)

وجاءَ يَسُوعُ إِلى البَيْت. وٱحْتَشَدَ الجَمْعُ مِنْ جَدِيد، حَتَّى تَعَذَّرَ عَلَى يَسُوعَ وتَلاميذِهِ أَنْ يَتَنَاوَلُوا طَعَامًا.

وسَمِعَ أَقْرِبَاؤُهُ فخَرَجُوا لِيُمْسِكُوه، لأَنَّهُم كانُوا يَقُولُون: «إِنَّهُ فَقَدَ صَوَابَهُ!».

والكَتَبَةُ الَّذين ٱنْحَدَرُوا مِنْ أُورَشَليمَ كَانُوا يَقُولُون: «إِنَّ فِيهِ بَعْلَ زَبُول، وإِنَّهُ بِرَئِيسِ الشَّيَاطِينِ يُخْرِجُ الشَّيَاطِين!».

فدعَاهُم يَسُوعُ وأَخَذَ يَقُولُ لَهُم بِأَمْثَال: «كَيْفَ يَقْدِرُ شَيْطانٌ أَنْ يُخْرِجَ شَيْطاناً؟

وإِذَا ٱنْقَسَمَتْ مَمْلَكَةٌ عَلَى نَفْسِها، فلا تَقْدِرُ تِلْكَ المَمْلَكَةُ أَنْ تَثْبُت.

وإِذَا ٱنْقَسَمَ بَيْتٌ عَلَى نَفْسِهِ، فلا يَقْدِرُ ذلِكَ البَيْتُ أَنْ يَثْبُت.

وإِذَا قَامَ الشَّيْطَانُ عَلَى نَفْسِهِ وٱنْقَسَم، فلا يَقْدِرُ أَنْ يَثْبُت، بَلْ يَنْتَهي.

لا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ القَوِيِّ ويَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ، إِنْ لَمْ يَربِطِ القَوِيَّ أَوَّلاً، وحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ.

أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: كُلُّ الخَطايَا تُغْفَرُ لِبَنِي البَشَر، ويُغْفَرُ لَهُم كُلُّ تَجْدِيفٍ مَهْمَا جَدَّفُوا.

أَمَّا مَنْ يُجَدِّفُ عَلَى الرُّوحِ القُدُسِ فلا مَغْفِرَةَ لَهُ أَبَدًا، وهُوَ مُذْنِبٌ بِخَطِيئَةٍ أَبَدِيَّة».

قالَ هذَا، لأَنَّهُم كَانُوا يَقُولُون: «فِيهِ رُوحٌ نَجِس!».

الموعظة

نريد إلهاً يقول ما نريد أن نسمع..

نريد إلهاً يعمل لصالح مصالحنا..

نريد إلهاً خارقاً .. قديراً.. قوياً.. يستطيع أن يفعل ما يستحيل علينا..

لا نريد إلهاً صحيحاً.. نريده مثلنا.. متلاعباً في أروقة الحياة..

لا نريد إلهاً مجنوناً .. نريده عاقلاً .. مثلنا..!!

وعندما يعمل الله العاقل (مثلنا)، ما نعمل نحن، يصبح، رويداً رويداً، باهتاً، عديم النفع، على هامش الحياة، فنذهب لنصنع إلهاً آخر أكثر تعقل ليواكب حجم تطور عقولنا المريضة.

وإن بقي الله مجنوناً وليس مثلنا، لا يعمل ما نعمل، ولا يقول ما نريد أن نسمع، لا بل يكشف هوية جديدة لا تشبهنا، ننتفض ونرفض ونصرخ أين إلهنا؟

من المجنون ومن العاقل؟

في علم النفس يقولون إن المجنون هو الذي فقد كل شيء ما عدا عقله..

وفي أمثالنا نقول خذوا الحكمة من أفواه المجانين.. ومجنون يحكي وعاقل يسمع..

المجنون، بنظرنا، هو الذي لا يشبهنا، لا يعمل مثلنا، له عالمه الخاص، غير عالمنا، والعاقل، بنظرنا أيضاً، هو الذي يشبهنا، ويعمل مثلما نعمل، وينضم إلى عالمنا..

نظريتنا في تحديد المجنون والعاقل هي نظرية بحاجة إلى تحديد. 

كيف لمجنون أن يشفي مجانين؟ بل، كيف لعاقل أن يشفي عقلاء؟

إن المنطق العقلي يقول: على العاقل أن يشفي المجانين.. و ليس على المجنون أن يشفي العقلاء.

لكن على ما يبدو، أن هناك مجنوناً، حسب نظريتنا عن الجنون، يستطيع أن يشفي العقلاء، وهو يسوع المسيح المتهم بأنه قد فقد صوابه.

يسوع المسيح المعلّم المجنون، يقول ويفعل أموراً لا تشبه معاصريه وبالأكثر، يقول ويفعل أموراً تنتقد معاصريه، يُبكّتهم، يحاول قلْبَ شعائرهم وشرائعهم، ويُظهر أن تدينهم ودينهم ودنياهم تذهب سدىً بمجرد أنهم ألّهوا أفكارهم.

إن حياة يسوع وأعماله وأقواله تعيد على بساط البحث عاداتنا وتصرّفاتنا الإجتماعية ونظراتنا الدينيّة. وأفضل طريقة بها نتخلّص من هذا المعلّم المجنون هي أن نربطه بالشيطان. هذا الأسلوب لا يخطئ، إنه كفيل بأن يسحب ثقة الناس به، فقد مسه الشيطان، تلاعب به الشرير، وتلاعبت به السياسة..يستطيع الإنسان أن ينكر كل يقين، أن يفسّر بنيّة سيّئة أعمالاً إيجابية أو التزامات شجاعة، لكي يبرّر إمتيازاته، لكي لا يغيرّ عاداته الإجتماعية أو الدينية، لكي لا يطرحها على بساط البحث.
خطيئة خطيرة ضد الروح القدس. يستطيع الله أن يغفر كل ضعف وكل خلل عند البشر. ولكنه لا يستطيع شيئاً ضد الذين يجعلون النور ظلمة والظلمة نوراً. في الإنسان روح شيطانية قد تغلقه على نفسه وتمنع عنه نور الروح القدس.

يتنكر أعضاء عائلة يسوع لعقلانيته ويتهمونه بالجنون، وحسب سياق النص، لا ينضمون إلى الجماعة المجتمعة في (البيت) المزدحم بهم، والذي هو رمزُ للكنيسة العتيدة، أم وأخوة يسوع يطلبونه ليعيدوه إلى صوابه، إلى (البيت)، وكأننا هنا أمام تيارين من نوعين مختلفين، تيار العالم وهو عائلة يسوع، وتيار الكنيسة الجديدة والتي هي عائلة يسوع الحقيقية، فمن يعمل بمشيئة من أرسلني هو أبي وأمي وأخوتي..

تيار العائلة - العالم  يريد من يسوع أن يكون حيادياً، بلا طعم ولا لون ولا رائحة، مثله مثل جميع جيرانه (المتدينين وأصحاب الشريعة والمجتمع المهزوم)، لكي يسندوا أفكارهم ونظرتهم إلى العالم. يريدونه رجلاً لا يزعج أحداً. هؤلاء ظلّوا خارجاً. لم يدخلوا إلى منطق الإنجيل الذي هو منطق حب وعطاء حتى النهاية.

لقد أراد يسوع أن ينقل سامعيه من عائلته إلى البيت، ولم يُرد أن يخرج هو خارج هذا البيت - الكنيسة، فالإيمان المُحّب والفاعل هو من ينقل الإنسان من الخارج إلى الداخل، من العالم إلى الكنيسة. إلى جماعة مسيحية.

يبدو أننا بحاجة إلى جرأة شبيهة بجرأة جنون هذا المعلّم، يسوع المسيح، فهل نقبل؟

باسم العقل والتعقل أسكتنا أنبياء كثر، وصَلَبْنا ابن الله، وقدنا حروباً وسبينا سبياً عقول البسطاء، ألم يحن الوقت لأن نمشي عكس التيار؟ ألم يحن وقت السير على خطى هؤلاء المجانين الذي كانوا أكثر تعقلاً وحكمة؟ كفانا أنانية نريد بها إدخال الجميع إلى منطقنا الضيق.

الإنجيل - كلمة الله - يسوع المسيح هو موضوع صراع وتحدّي في هذا العالم، مهمته كشف جهل وظلام العالم، وإنارة حقيقة عقلانية الإنسان. إن ما حصل مع يسوع يحصل اليوم مع كل الذين دخلوا البيت معه، كلهم مجانين، وكلنا أيضاً، ليتنا نصبح كذلك.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.