صَنَميةُ صَومِنا 


بعد بضعة أيام نحن على موعد مع بدء الصوم الكبير الذي يمتد إلى أربعين يوماً، فماذا يمكننا أن نفعل بشكل خاص ومميز في حين أن الكثير من الناس بما فيهم نحن مأخوذون و مثقلون بالعمل وهموم الحياة، التي باتت عبئاً لا يُستهان به؟

فهل يكون الصوم همّاً إضافياً وعبئاً على ضميرنا؟ 

في الحقيقة الصوم هو محاولة للتخلص من أعباء وهموم الحياة، هو بمثابة العودة إلى البساطة، وإلى جوهر الأمور في حياتنا. 

كل العادات والتقاليد التي ترافق الصوم، ليست جوهرية، وإنما هي وسيلة وطريقة عيش للصوم نفسه، وقد اتضح مع الأيام، وبعدم عيشنا لمعناها، أنها استعبدتنا، و منعتنا من أن نتحرر، رغم أن الصوم هو باب عظيم للتحرر.

غاية الصوم هو نقاوة القلب، أو معاينة الله كأب يتقبّل حبّنا، لهذا يبذل عدوّ الخير جهده أن يفسد هذا العمل خلال تسلّل حب الظهور والرغبة في مديح الناس إلينا، فينحرف بالقلب بعيدًا عن الله، ويصير الصوم عملاً شكليًّا بلا روح، إننا لا نصوم من أجل الصوم بحد ذاته، ولا لأجل الحرمان، إنّما لأجل ضبط النفس وانطلاق القلب إلى الحياة السماويّة.

لا نقرأ قط أن أحدًا سيُلام من أجل تناوله الطعام، إنّما تقع الملامة  على الارتباط به أو الاستعباد له. ولا تتوقف القصة عند الطعام فقط، فهناك عبودية للتلفاز أو الكمبيوتر أو الانترنت أو الذات أو المال أو الشهوات والأهواء ..الخ، فهذه كلها تشكل نوعاً من الضغط على الفرد وعلى العائلات، ولزوم التحرر من هذه الأشكال للعبودية بات ضرورياً، ومن هنا القول بأن الصوم هو الذهاب إلى ما هو أساسي وجوهري، هو قول حق.

فإذاً ما هو الصوم؟

الصوم هو اللقاء، بالعمق، مع ذاتي ومع الله، حيث أنه من الممكن، وأنا أقول أنه من المؤكد، أننا مسروقون من ذواتنا ومن الله، فنحن نتسابق للغنى المادي والشهوات والأطماع وحب الظهور والمجد الباطل..الخ، وبهذا المعنى نقول بأن الصوم هو الحصول على إنسانيتي، قبل الحصول على مجرد رضى ديني يتمثل بالانقطاع ساعات محدودة فقط عن الطعام والشراب.

الصوم هو زمن النضج والبلوغ، ونعيش هذه الحالة من خلال رمز الأربعين يوماً، فرقم الأربعين، في الكتاب المقدس، هو رقم نضج البنين ليتسلموا أمكنة آبائهم في التدبير والإمساك بزمام الأمور، ويدل على انتهاء فترة الموت وبدء الحياة.

الصوم هو، قبل كل شيء زمن التوبة، أي العودة إلى الله والإيمان بأن يسوع هو الإنسان الجديد الذي يجب أن أكون عليه، وما العادات المرافقة للصوم والابتعاد عن الأطعمة والأفكار الغير ملائمة.. إلا نتيجة لذلك.

قبل زمن الصوم بأسابيع، تبدأ، حسب كل تقليد، مسيرة من التحضيرات، كانت فيما مضى مهمة، فلقد كانت الحياة زراعية وموارد الطعام محلية الصنع، ويتم حفظ الطعام بطرق مختلفة وبسبب عدم وجود الثلاجات آنذاك، وكانت العائلة الغنية بمواشيها ودواجنها تذبح وتأكل من منتجاتها، وأما الفقيرة فكانت تترك ما لديها لتحتفل به في الأعياد.

كان رتم الحياة مختلف عن الآن، فالنوم مبكراً عند غروب الشمس والاستيقاظ مبكراً عند الفجر،جعل تحديد وقت الانقطاع عن الطعام ليلاً إلى الساعة الثانية عشر ظهراً، وبما أن الصوم يقع غالباً في أواخر الشتاء وينتهي في الربيع، فإن معناه الروحي هو أن نخرج من الموت إلى الحياة.

مهما اختلفت التقاليد والعادات فإنها تبقى ثانوية ومتغيرة، ويبقى الأهم هو الرجوع إلى الجوهري والأساسي، فلا خميس السكارى أو الذكارى أو مهما يكن اسمه، ولا المرافع ولا الأوقات ولا أنواع الأطعمة هو ما يُعيد الإنسان إلى ذاته وإلى الله، كل تلك العادات إنما هي وسائل وطرق تساعد الإنسان المؤمن لبلوغ غاية الصوم، وإن كانت هذه الوسائل لا تساعد فيجب تجنب عيشها بالكامل، لأننا عندها سنبقى عند الشكل وننسى المضمون.

وبمعنى آخر وأعمق، يميل الإنسان بشكل عام إلى العادات، مما يجعله آمناً ويظن أن كل تغيير يجري على عاداته إنما يزعزع أمنه واستقراره، لذا اخترع عادات وتدابير ترافق مناسباته وتُعبّر عنه وعن معنى المناسبة، وهذا جرى حتى في العلاقة مع الله، لدرجة أن الإنسان نسي الله وتعلق بعاداته، وأصبح ما صنعه الإنسان فوق الله، وهذا ما نسميه بالصنمية، أي أن نجعل ما هو من صنعنا أهم من الله نفسه، وبتطبيق هذا الكلام على الصوم وعاداته، فإننا نجد اهتماماً غريباً بالوسيلة على حساب الهدف، وهذا ما يجعل صومنا صنمياً بامتياز، وهذا ما يُفسّر عدم تقدمنا الروحي في العلاقة مع الله، وفي تطورنا الإنساني العميق. فلا نوعية الطعام ولا الشراب ولا الانقطاع عنهما ولا أي شيء آخر هو الأساسي والجوهري، وإنما الارتقاء بالعلاقة مع الله والآخرين.   

لقد طرد يسوع الباعة من الهيكل، لا ليمنع التجارة، بل ليمنع من استعمال الله كوسيلة لهذه التجارة، ولعل هذه الحادثة تجعلنا نفهم بُعداً هاماً ألا وهو تنقية نفوسنا، لتصبح هيكلاً لله. وللتأكيد فقط، فإن ما جرى مع يسوع لاحقاً، أعني الصلب والموت، يؤكد اهتمام الإنسان بصنمية التديّن، فقد جرى إقصاء يسوع الذي أراد أن يوضح أهمية الله فوق كل شيء، لقد طُرد وهو الذي يجب أن يطرد، فنحن لا نريد الله كما هو، بل كما نريده نحن أن يكون.

أستطيع أن أسرد أمثلة كثيرة، ولكن سأكتفي بهذا القدر، وأختم وأقول بأن الوصايا العشر في العهد القديم كانت تحدي كبير لأصنام الإنسان، وهي تنطلق من جراء الواقع الصنمي الذي يعيشه الإنسان، فالوصية الأولى هي: "أنا الرب إلهك لا يكن لك إله غيري".. وأما في العهد الجديد فهناك شريعة التطويبات، التي من خلالها يرتقي الإنسان لعلاقة أعمق عندما يكتشف أنه ابن لله، وبذلك يكون من المهم والمُلّح أن نعي أن الصوم هو ذاك الزمن الذي نحاول فيه استعادة ما فقدناه، ونبني من خلاله حضارة بنوتنا لله.