مات المسيح لأجلنا 

أو 

أرسل لنا كورونا 


على ضوء ما يجري اليوم، كما كان يجري في الماضي، تضاربت الآراء حول حقيقة الله فيما يتعلق بأن وباء كورونا أو غيره من الأمراض والأوبئة والحروب والكوارث، أهي تجربة منه، أو امتحان، أو أن الله يفعل هذه الأمور لكي يجعل الإنسان يتوب، وبالتالي بات مهماً أن   نطرح السؤال بل الأسئلة التالية:

هل الكوارث الطبيعية هي من صنع الله؟

هل الأمراض والأوبئة، كوباء كورونا الحالي، هو امتحان من الله للإنسان؟

هل يستخدم الله الشر لكي يُنبّه الإنسان على خطيئته، فيعود ويتوب؟

كل هذه الأسئلة وغيرها، ظهرت في الآونة الأخيرة، وظهر معها المفسرون والشراح، وراح بعضهم يلقي اللّوم على الله وذهب البعض الآخر لاتهام الله بالتقصير والفشل، وخاف بعض الناس، وآخرون شكوا وآخرون تاهوا في حقيقة ما يجري.

لكي نُجيب على هذه الأسئلة، علينا أولاً أن نسأل أنفسنا، نحن نؤمن بالله على أنه ماذا؟ هل نؤمن بالله على أنه محبة؟ أم أننا نؤمن بإله أقل ما يقال عنه إنه طاغية ودكتاتور؟

 لكي نفهم ما هي حقيقة الله تعالوا معي نفهم ما معنى عبارة "مات المسيح لأجلنا".

على الصليب كان أهم حدثٍ في التاريخ، ففي الصليب كشف المسيح وجه الله الحقيقي.

إن أول ما نفكر فيه أمام الصليب، هو هذه الجملة: "مات المسيح لأجلنا".

ولطالما كنا نُفكّر بهذه الجملة على هذا النحو:

علاقة الله بالإنسان تُشبه إلى حد كبير علاقة الطالب بأستاذه، فعلى الطالب أن يكنّ الاحترام والتقدير لمعلمه، بل و إنه يخافه كثيراً، لا يجرؤ أن يتصرف بحرية أمامه، وهذا المعلم لديه دفتر علامات، فكلما اجتهد الطالب، وضع المعلم في دفتره علامة جيدة، وعلى العكس أيضاً، كان يضع علامات تراجعه، إلى أن أتى يوماً وأحبَّ الطالب أن يتحرر من أستاذه هذا، فقام وشتمه وأساء التصرف تجاهه، فما كان من المعلم إلا أن يستدعي ولي أمر الطالب، يطالبه بالتعويض عن الإهانة، ورغم كل محاولات الأهل للتعويض، لم يستطيعوا رد الاعتبار للأستاذ المُهان، ولم يستطيعوا أيضاً أن يُعيدوا ولدهم الطالب إلى مدرسته. وبعد فترة من الزمن، جاء ابن هذا الأستاذ، يتوسل إلى أبيه ويطلب العفو للطالب، فهو رفيقه ويُحبه، وهو على استعداد ليقدم أي شيء لتعود العلاقة بينهما كما كانت في السابق، فطلب الأستاذ من ابنه أن يعوّض له عن الإهانة، فقبل الابن وقال لأبيه ماذا تريد، فقال: أن يُجلد الطالب ويُضرب، فصرخ ابنه وقال: لا يا أبتي، أنا سأُجلد وأُضرب عوضاً عنه، أتقبل، فقال أقبل، وهكذا عاد الطالب إلى المدرسة، بفضل ابن الأستاذ الذي قبل أن يُضرب عنه.

إنها قصة من ضرب خيالي، ولكنها تشبه إلى حدٍ كبيرٍ، ما نُفكّر فيه أمام قضية الله وإهانة الإنسان له بالخطيئة.

فلكي نعبّر عن تلك الحالة، أعني موت المسيح لأجلنا، صرنا نردد عبارات مثل: مات كفارة عن خطايانا، وتعويضاً عن خطايا البشر، وليرُضي أباه الساخط علينا. إلى ما هنالك من عبارات نستخدمها لندل على ما فعل الرب يسوع المسيح محبة فينا.

لكن إذا أمعنا النظر بتلك العبارات وحاولنا أن ندل بها على محبة الله، فإننا في الوقت الذي نقصد فيه أن الله محبة، نقصد أيضاً أنه طاغية ودكتاتور. يظهر الله في هذه العبارات على أنه طاغية، لا يرضى إلاّ أن يُسفك دمٌ أمام إهانة الإنسان له بالخطيئة، ويُطالب الله الإنسان بأن يعوّض عن الخطيئة التي ارتكبها تجاهه، ومن هنا نرى أن كل العلاقة الإنسانية-الإلهية، عبر الزمان، كانت على هذا النحو، فكل العبادات والطقوس الدينية كانت تقرب ذبائح تسترضي بها الآلهة، وهذه الذبائح هي تقدمة من الإنسان لله، وهي ليست تقدمة ذاته، بل هي، ذبائح تعويضية - كفاريّة - استبدالية.. سمّوها ما شئتم، ذبائح يُقدمها الإنسان لله بدلاً من ذاته، وكانت هذه الذبائح عبارة عن مقايضة، أي أُقدم لك ذبيحة فتقدم لي غفران، أو خيرات أو نِعَماً مختلفة، لأحيا أنا وأنعم أنا، وخصوصاً أنك يا الله، إله مُحِب.

إن هذا العرض لمفهوم "مات المسيح لأجلنا" لهو شاذٌ للغاية، فهو وثنيُّ المنشأ، ولا يمت لإله الإيمان المسيحي بصلة.

لكي نفهم أكثر يجب علينا أن نستعرض سوية محبة الله ما هي:

نحن نفهم أن محبة الله ظهرت لنا بابنه يسوع المسيح، الذي أخذ على عاتقه، وهو بريء، حمل خطايا الإنسان، وتم رفع خطيئة العالم، بالصليب، حيث قدم ذاته ذبيحة كفارية عن الخطأة، وكان ذلك ليعوّض عن الإهانة التي لحقت بالله، وكان لا بد من إله مساوٍ له أن يفعل هذا، إذ لا يستطيع الإنسان المحدود أو يعوّض لله اللامحدود. هذا الطرح، يُسميه الكردينال رتزنغر (البابا بندكتوس السادس عشر): عرضٌ أوليّ لسر الفداء، ويُضيف قائلاً: "نحوّل وجوهنا مرتاعين عن عدلٍ إلهي، يُجرّد غضبه القاتم، رسالةَ المحبة، من كل مصداقية".

نحن هنا أمام ارتباك ذهني، فالمسيح مات لأجلنا، وخلّصَنا من الخطيئة، إذ حمل خطايانا، وصالحنا مع أبيه الساخط علينا، ونعترف ونؤمن بأن هذا العمل هو عمل محبة خالص، فأين يكون الخطأ في فهمنا؟ في الحقيقة الخطأ يقع في أننا افترضنا أن الله لا يقبل بالمصالحة إلاّ عبر ذبيحة ابنه، وبالتالي تكون محبة الله مشروطة وأيضاً غير مجانية، وفي كلتا الحالتين، لا نستطيع أن نسمي هكذا سلوك على أنه محبة.

من شروط المحبة، إن صح التعبير، ألّا تكون مشروطة، ألّا تقف المحبة على شرط، وأن تُحب دون مقابل.

البابا بندكتوس السادس عشر يتكلم عن الرسالة إلى العبرانيين، وهي الرسالة التي تتكلم أكثر من غيرها في الإنجيل عن مفهوم الذبائح وذبيحة المسيح لأجلنا، ويَخْلُصُ بهذا القول:

"إن جهاز البشرية الذبائحي كله، وجميع الجهود التي ملأت العالم، لمصالحة الله بالعبادة والطقوس، كُتِبَ لها أن تبقى عملاً بشرياً باطلاً وغير مفيد، لأن ما يريد الله، ليس هو التيوس ولا الثيران ولا أي قربان طقسي. قد يُذبح لله ألوف من الحيوانات على وجه الأرض، لكن الله لا يحتاج إليها فإنها له على كل حال. ولا يستفيد الله من إحراق كل ذلك لمجده.. فالإنسان، الإنسان وحده، يهمّ الله. كل شيء لله، لكنه وهب للإنسان حرية القول "نعم" أو "لا"، وحرية المحبة أو عدم المحبة. إن اعتناق المحبة الحر هو الشيء الوحيد الذي يمكن لله أن ينتظره".

ما أفهمه من كلام البابا بندكتوس السادس عشر، هو أن المحبة، في حقيقتها، عليها أن تكون حرة، وقادرة على منح الحرية للآخر. وإن لم تكن المحبة على هذا الطراز فلا يمكن أن تكون محبة حقيقية. وكما يقول الأب فرانسوا فاريون، بما معناه، أن المحبة هي الموت وهي عدم الوجود إلّا بالآخرين وفي سبيل الآخرين.

وهذا بالضبط ما قد قام به يسوع، إذ أنه أخلى ذاته، متخذاً صورة عبدٍ، طائعاً حتى الموت، الموت على الصليب، لقد أظهر يسوع على الصليب ما هو الله، وهو الذي قال: "من رآني رأى الآب"(يوحنا 14: 9)، فهذا لا يعني أن الله طالبَ ابنَه بالتعويض، بل أنه هو ذاته قدّم نفسه، وضحى بنفسه، في سبيل آخر، الذي هو الإنسان. أظهر قدرة الله لا على الانتقام والثأر، بل على المحبة، وهذه القدرة هي قدرة على التخلي عن الذات، وبكلام آخر، هي قدرة على الاحتجاب والتواري، لا على السيطرة وبطش الآخر، فعندما أحبّ، أريد للآخر أن يكون (أن يوجد بأفضل مستوى للوجود). وهذا تمام ما يعني الغفران.

هكذا نستطيع أن نفهم كيف "مات المسيح لأجلنا"، يعني أنه قام بمشاركة أبيه بالغفران، فالغفران لا يعني التساهل مع الذي أخطأ، وإنما يعني فسح المجال ليكون حراً من جديد، وأعني بعبارة "فسح المجال" هنا، ذاك الاحتجاب ليكون الآخر، ويكون الآخر بالحرية من أي رباط أو شرط أو قيد، وهنا نستطيع القول بأن كل ما قام به الله هو أنه حرر الإنسان، أي فسح بالمجال، ابتعد، انسحب، توارى..الخ، ليكون الإنسان حراً، وهذا هو معنى الغفران، وقد ظهر هذا الغفران على الصليب، إذ مات المسيح لأجلنا.

إن قدرة الله، الذي هو محبة، على الغفران، تستوجب قبول الخاطئ كما هو، فالغفران يعني في هذه الحالة، عدم فرض أي نوع من الشروط على الخاطئ، بمعنى إما أن يغفر أو لا يغفر، فالله عندما يغفر للإنسان خطيئته لا يُطالبه بأن يكون مستقيماً، فلو كان مستقيماً كيف يكون الله له غافراً؟ ونستطيع أن نذكر كلام الرب يسوع في الإنجيل، عندما أجاب على اتهام الفريسيين والكتبة بأنه يجلس مع الخطأة والعشارين، عندما قال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى. لم آت لأدعو أبرارا بل خطأة إلى التوبة" (مرقس 2: 17).

يؤسفني جداً أن بعض الناس يُحمّلون الله مسؤولية ما يجري، فهناك أقوال تخرج من فم الكثيرين ومن الإكليروس أيضاً و يا للأسف، مثل(الله سمح بهذه التجربة، أو هذا عقاب من الله ..) أو غيره من الكلمات التي تُعبّر عن عدم فهم حقيقي لله، وخاصةً أننا نؤمن بأن الله محبة.

نحن لسنا لعبة بيد أحد ولا حتى الله تبارك اسمه، ليَمتَحِنَنا بالتجارب، فالله معنا وليس علينا، ولا يمكن أن يكون معنا وعلينا بنفس الوقت. فإن كان هو المُمرض فكيف يكون هو نفسه الشافي؟، الله لا يُجرِّبنا .. وأيضا لا يَمتَحِنَنا. على الإنسان الذي تمتحنه الحياة بكل ظروفها أن يَثبُت في الله، والله هو المُعين له في امتحانه هذا.. لذلك لا يُمكن أن يكون الله هو الداء والدواء بنفس الوقت. إنّ الله أعطى الحياة للناس بموت ابنه يسوع وقيامته، فلا يمكننا أن نتهم الله بأن الموت أو المرض يأتيان منه.

يسوع يكشف بشكل كامل، بأن الله هو إله الحياة.

مقابل الخطيئة يسوع هو الغفران. ومقابل الموت إنه القيامة.

في نص إنجيل إقامة ابن أرملة نائين (لوقا 7: 11-18) يقول النص بأنه على كلمة يسوع وقف حاملو النعش، ممّا يعني أن الطريق باتجاه القبر لم يعد ممكناً؛ فالذين يسيرون نحو إلغاء الحياة، تَجَمَدوا، أصبحوا بلا حراك. ويسلّم يسوع الشاب إلى أمّه، وهذا يعني أن الله لا يسمح بموت الإنسان، بل يُعيد له الحياة، وبالتالي، لا نستطيع أن نعتبر ما جرى مع الأرملة هو امتحان من الله لكي يظهر عمله، إذ كيف يكون هو المُسبب وهو الحل بذات الوقت؟

نحن نؤمن بأن يسوع المسيح أعطى الحياة للإنسان، ولا يكتفي يسوع بشفاء الجسد دونما النفس، بل الإنسان كله، فلا نطلب أن تُشفى أجسادنا ونحن سالكون في الخطيئة.

من محبته، سيشفي الرب كل شيء فينا، لكن علينا تقع مهمة استقبال الله كمصدر للحياة الحقيقية، حتى وإن متنا تكون لنا الحياة في الله.

لا أريد أن ينتهي الحديث هنا، ولكن لا بد لهذا المقال أن ينتهي بهذا القدر، عسى أن نخوض فهماً آخر من مفاهيم إيماننا المسيحي، وإلى ذلك، أود أن أنوه على ضرورة الرجوع إلى المراجع اللاهوتية المسيحية والتعليمية وكتابات الآباء القديسين، لنفهم أكثر فأكثر حقيقة الإيمان بالله.

لك أيها القارئ محبتي.