لنطرح عنا رداء الخوف 

الأحد السادس من الصوم 

شفاء الأعمى 

رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس (10: 1-18) 

يا إخوَتِي، أَنَا بُولُسُ نَفْسي أُنَاشِدُكُم بِوَدَاعَةِ المَسِيحِ وَحِلْمِهِ، أَنَا المُتَواضِعُ بَيْنَكُم عِنْدَمَا أَكُونُ حَاضِرًا، والجَريءُ عَلَيْكُم عِنْدَما أَكُونُ غَائِبًا.

وأَرْجُو أَلاَّ أُجْبَرَ عِنْدَ حُضُورِي أَنْ أَكُونَ جَريئًا، بِالثِّقَةِ الَّتي لي بِكُم، والَّتي أَنْوِي أَنْ أَجْرُؤَ بِهَا عَلى الَّذينَ يَحْسَبُونَ أَنَّنا نَسْلُكُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين.

أَجَل، إِنَّنا نَحْيَا في الجَسَد، ولكِنَّنا لا نُحَارِبُ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين؛

لأَنَّ أَسْلِحَةَ جِهَادِنا لَيْسَتْ جَسَدِيَّة، بَلْ هيَ قَادِرَةٌ بِٱللهِ عَلى هَدْمِ الحُصُونِ المَنِيعَة؛ فإِنَّنا نَهْدِمُ الأَفْكَارَ الخَاطِئَة،

وكُلَّ شُمُوخٍ يَرْتَفِعُ ضِدَّ مَعْرِفَةِ ٱلله، ونَأْسُرُ كُلَّ فِكْرٍ لِطَاعَةِ المَسِيح.

ونَحْنُ مُسْتَعِدُّونَ أَنْ نُعَاقِبَ كُلَّ عُصْيَان، مَتى كَمُلَتْ طَاعَتُكُم.

إِنَّكُم تَحْكُمُونَ عَلى المَظَاهِر! إِنْ كَانَ أَحَدٌ وَاثِقًا بِنَفْسِهِ أَنَّهُ لِلمَسيح، فَلْيُفَكِّرْ في نَفْسِهِ أَنَّهُ كَمَا هوَ لِلمَسيحِ كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا.

فَأَنا لا أَخْجَلُ إِنْ بَالَغْتُ بَعْضَ المُبَالَغَةِ في الٱفْتِخَارِ بِالسُّلْطَانِ الَّذي وَهَبَهُ الرَّبُّ لَنا لِبُنْيَانِكُم لا لِهَدْمِكُم.

ولا أُرِيدُ أَنْ أَظْهَرَ كأَنِّي أُخَوِّفُكُم بِرَسَائِلي؛

لأَنَّ بَعْضًا مِنْكُم يَقُولُون: «رَسَائِلُهُ شَدِيدَةُ اللَّهْجَةِ وقَوِيَّة، أَمَّا حُضُورُهُ الشَّخْصِيُّ فَهَزِيل، وكَلامُهُ سَخِيف!».

فَلْيَعْلَم مِثْلُ هذَا القَائِلِ أَنَّنا كَما نَحْنُ بِالكَلامِ في الرَّسَائِل، عِنْدَما نَكُونُ غَائِبين، كَذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا بِالفِعْل، عِنْدما نَكُونُ حَاضِرين.

فَنَحْنُ لا نَجْرُؤُ أَنْ نُسَاوِيَ أَنْفُسَنا بِقَومٍ يَشْهَدُونَ لأَنْفُسِهِم، أَو نُقَارِنَ بَيْنَنا وبَيْنَهُم، لأَنَّ الَّذِينَ يَقِيسُونَ أَنْفُسَهُم بِأَنْفُسِهِم، ويُقَارِنُونَ أَنْفُسَهُم بِأَنْفُسِهِم، لا يَفْهَمُون!

أَمَّا نَحْنُ فَلا نَفْتَخِرُ فَوْقَ القِيَاس، بَلْ بِقِيَاسِ الحُدُودِ الَّتي رَسَمَهَا ٱللهُ لَنَا، وقَدْ بَلَغَتْ بِنا إِلَيْكُم.

فَنَحْنُ لا نَتَعَدَّى حُدُودَنا، كَأَنَّنا لَمْ نَبْلُغْ إِلَيْكُم، بَلْ كُنَّا أَوَّلَ مَنْ وَصَلَ إِلَيْكُم بِإِنْجِيلِ المَسيح.

إِنَّنا لا نَفْتَخِرُ فَوقَ القِيَاسِ عَلى حِسَابِ أَتْعَابِ غَيْرِنَا، بَلْ نَرجُو، عِنْدما يَنْمُو إِيْمَانُكُم، أَنْ نَزْدَادَ قَدْرًا في أَعْيُنِكُم، ضِمْنَ حُدُودِ عَمَلِنا،

لِكَي نَحْمِلَ البِشَارَةَ إِلى أَبْعَدَ مِنْ عِنْدِكُم، ولا نَفْتَخِرَ بِمَا أَنْجَزَهُ غَيرُنا ضِمْنَ حُدُودِ عَمَلِهِ.

«وَمَنْ يَفْتَخِرْ فَلْيَفْتَخِرْ بِالرَّبّ!».

فَلَيْسَ مَنْ يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ هوَ المَقْبُولُ عِنْدَ الرَّبّ، بَلْ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الرَّبّ!

إنجيل القدّيس مرقس (10: 46-52)

بَيْنَمَا يَسُوعُ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحا، هُوَ وتَلامِيذُهُ وجَمْعٌ غَفِير، كَانَ بَرْطِيمَا، أَي ٱبْنُ طِيمَا، وهُوَ شَحَّاذٌ أَعْمَى، جَالِسًا عَلَى جَانِبِ الطَّريق.

فلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ النَّاصِرِيّ، بَدَأَ يَصْرُخُ ويَقُول: «يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!».

فَٱنْتَهَرَهُ أُنَاسٌ كَثِيرُونَ لِيَسْكُت، إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ يَزْدَادُ صُرَاخًا: «يَا ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!».

فوَقَفَ يَسُوعُ وقَال: «أُدْعُوه!». فَدَعَوا الأَعْمَى قَائِلِين لَهُ: «ثِقْ وٱنْهَضْ! إِنَّهُ يَدْعُوك».

فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع.

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَصْنَعَ لَكَ؟». قالَ لَهُ الأَعْمَى: «رَابُّونِي، أَنْ أُبْصِر!».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «إِذْهَبْ! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ». ولِلْوَقْتِ عَادَ يُبْصِر. ورَاحَ يَتْبَعُ يَسُوعَ في الطَّرِيق.

الموعظة

وصلنا إلى الأحد السادس من زمن الصوم، ونقرأ في هذا الأحد معجزة شفاء الأعمى، هذا الإنسان المقيّد على جانب الطريق، ينتظر من يأخذه ذهاباً وإياباً، وهو يشحد لقمة عيشه، أي أنه فقير، لا يملك شيئاً، سوى صوته، الذي دَوَّى عند سماعه بمرور يسوع المسيح، ابن داود، فصرخ:"يَا يَسُوعُ ٱبْنَ دَاوُدَ ٱرْحَمْنِي!". وعندما طلب يسوع أن يدعوه، يقول لنا نص الإنجيلي مرقس "فطَرَحَ الأَعْمَى رِدَاءَهُ، ووَثَبَ وجَاءَ إِلى يَسُوع".

طرح الرداء له مدلوله، والقديس مرقس، في هذا النص، حذرٌ جداً، انتبهوا إنه لم يروي تفاصيل تُشبع فضول عقلنا، لم يقل لنا كم كان عُمر الأعمى، ولم يقل شيئاً عن كيفية معرفته بيسوع أنه ابن داود؛ ماذا كان يأكل ويشرب؟ أو كيف أصبح أعمى؟ كل هذه التفاصيل وأكثر منها لم يُخبرنا بها خبر شفاء الأعمى، فلِمَ طَرحُ الرداء هو تفصيلٌ مهمٌ تمّ ذكره؟ 

على مدار الكتاب المقدس، يأخذ الرداء رموزاً وأشكالاً متنوعة، تدل في أغلبها على الحالة التي إما أن تكون نبوية أو كهنوتية، كرداء إيليا النبي (سفر الملوك الأول 19 : 19)، أو تُعبّر عن حالات أزمنة الحياة، فلكل زمن رداءه الخاص، ويُمَيّز لباس العمل عن لباس العيد، ولكن في الغالب، يُعبّر الرداء عن الماضي من الحياة، كل ما يحمل الإنسان من ماضيه، من هنا نرى تلك الممارسة في رتبة المعمودية، عندما يخلع المعمّد ثيابه، علامةَ خلع الإنسان العتيق، ليلبس الإنسان الجديد، الذي هو يسوع المسيح، ونستطيع القول بأن الرداء هو أيضاً تلك العواطف الدافئة التي تجعلنا نَحِّنُ إلى ماضينا.

هكذا رداء الأعمى يدل مباشرة إلى ماضيه، وما تركه إلّا علامة تحررٍ من الماضي. هو يتجه في الحاضر إلى يسوع، ليسير معه في الطريق، وهنا تجدر الإشارة إلى أن يسوع في هذه المرحلة، كان ذاهباً إلى أورشليم، حيث أن هذا الطريق هو طريق الآلام والموت، الذي يقود إلى مجد القيامة. وسنرى فيما بعد كيف سيدخل يسوع إلى أورشليم، يوم الشعانين، والجموع سوف تخلع أرديتها، وتبسطها أمام موكبه.

إنْ كان الرداء يدل على ماضي الحياة، فالتعلّق بالرداء يُمثل التعلّق بالماضي. وهذا الماضي هو كل العادات والضوابط والقوانين والتربية والعلم والخبرة..إلخ، الجيدة منها والسيئة، التي تُشكل نوعاً من الضمانات لحياة الإنسان، فالإنسان يحتمي بماضيه. وترك أو طرح هذا الرداء، هو التعبير عن التحرر من هذا الماضي وما فيه.

ماضي هذا الأعمى معروف، إنه أعمى، جالس على جانب الطريق، جامد في مكانه، بينما الناس من حوله، ينظرون، يذهبون ويأتون كيفما يشاؤون. هو محكوم عليه من قبل الجميع، والجميع يُشفقون عليه، بما أنه فقير شحاد. وترك هذا الماضي المرير، المُعبّر عنه بطرح الرداء، يمرّ عبر يسوع، أو بالأحرى، حضور يسوع المسيح دفع الأعمى لأن يَثِب، تاركاً وراءه رداءه، أي كل ماضيه. وبحسب نظرتي، أرى أنّ هذا هو مفصل الرواية كلها، أي التحرر من الماضي، ويتجلّى هذا التحرر بكلمة يسوع للأعمى:"اذهب، إيمانك خلصك"، فالخلاص هو في الحقيقة تحرر، وما هدف هذا النص الإنجيلي اليوم إلّا ليُظهر يسوع كمخلص أكثر منه شافي، حتى ولو أننا نسمّي هذا النص "شفاء الأعمى".

اليوم ونحن في بيوتنا، جالسون على جانب طريق الحياة التي اعتدنا عليها، نلبس رداء الركود، نلبس رداء الخوف، ونشحد (إن صح التعبير) لقمة عيشنا، بسبب الحجر المنزلي لمنع تفشي وباء كورونا. نحن اليوم عميان مقيدون في بيوتنا، نحتاج إلى من يُحررنا من هذا القيد، وتعلو الصرخات من كل أصقاع العالم، "يا ابن داود ارحمنا"، لكن هل فكرنا أن تحررنا الحقيقي هو ليس شفاءً جسدياً يطال الصحة الجسدية فقط؟ 

مع أهمية الصحة الجسدية إلّا أن هناك صحة روحية ونفسية، غالباً لا نعتني بها، ولا نطلب شفاءها. والصادم بالموضوع، ألّا نسمع يسوع يقول لنا: "اشفوا"، بل يقول كما قال للأعمى: "إِذْهَبْ! إِيْمَانُكَ خَلَّصَكَ"، فيسوع يُعلن الحرية أولاً ويأتي الشفاء ثانياً، كتحصيل حاصل. وهنا المفارقة والتناقض بيننا وبين يسوع، فما نريده نحن شيء وما يريده هو شيء آخر.

إن شُفينا، هل نتبع يسوع في الطريق؟ لا أعتقد، لكن إن تحررنا مما يُميتنا، مما يفصلنا عن حياة الله، نستطيع عندئذ أن نتبع يسوع. هذا ما فعله أعمى أريحا، حيث أن إيمانه خلّصه - حرّره، ومن ثم "أبصر لوقته،ورَاحَ يَتْبَعُ يَسُوعَ في الطَّرِيق". 

هل نحن مستعدون لترك رداء الخوف ورداء الخطيئة لنقبل إلى يسوع فيعلن خلاصنا؟ هذا هو السؤال المُلّح والضروري، والأهم هو إجابة كل واحد وواحدة منا عليه.

لنطرح عنا رداء الخوف، رداء هذا العالم، ونثب، وثبة إيمان، آتين إلى يسوع، فهو خلاصنا، هو يُحررنا من أنانيتنا، من انغلاقنا على أنفسنا، ومن ضعفنا وشقائنا ومن ماضينا، إنه شفاء نفوسنا، وهو صحة عقولنا، إنه صحوة ضميرنا، إنه حياتنا. 

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.