الأحد السادس عشر بعد العنصرة 

معركة النور والظلام


الرسالة إلى العبرانيّين (6: 1-8) 

يا إخوَتِي، فَلْنَتْرُكِ المَبَادِئَ الأُولى في الكَلامِ عنِ المَسِيح، وَلْنَأْتِ إِلى مَا هُوَ أَكْمَل، ولا نَعُدْ إِلى وَضْعِ الأَسَاس، كالتَّوبَةِ عنِ الأَعْمَالِ المَيْتَة، والإِيْمَانِ بِالله،

وطُقُوسِ المَعمُودِيَّة، ووَضْعِ الأَيْدِي، وقِيَامَةِ الأَمْوَات، والدَّيْنُونَةِ الأَبَدِيَّة.

وذلِكَ مَا سَنَفْعَلُهُ بِإِذْنِ الله!

فَإِنَّ الَّذِينَ ٱسْتَنَارُوا مَرَّةً، وذَاقُوا ٱلمَوهِبَةَ السَّمَاويَّة، وٱشْتَرَكُوا في الرُّوحِ القُدُس،

وذَاقُوا كَلِمَةَ اللهِ الطَّيِّبَة، وقُوَّةَ الدَّهْرِ الآتِي،

وسَقَطُوا، هؤُلاءِ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِم أَنْ يتَجَدَّدُوا ثَانِيَةً، لأَنَّهُم مِنْ أَجْلِ تَوبَتِهِم يَصْلِبُونَ ٱبْنَ اللهِ مَرَّةً ثَانِيَةً ويُعَرِّضُونَهُ لِلعَار!

إِنَّ الأَرْضَ الَّتي شَرِبَتِ المَطَرَ النَّازِلَ عَلَيْهَا مِرَارًا، فأَطْلَعَتْ نَبْتًا نَافِعًا لِلَّذِينَ يَحرُثُونَهَا، تَنَالُ البَرَكَةَ مِنَ الله،

أَمَّا إِنْ أَنْبَتَتْ شَوْكًا وحَسَكًا فَهِيَ مَرذُولَةٌ وقَرِيبَةٌ مِنَ اللَّعْنَة، ومَصِيرُهَا إِلى الحَرِيق.


إنجيل القدّيس يوحنّا (8: 12-20)

قالَ الرَبُّ يَسُوع (للكتبة والفرّيسيّين): «أَنَا هُوَ نُورُ العَالَم. مَنْ يَتْبَعُنِي فَلَنْ يَمْشِيَ في الظَّلام، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الحَيَاة».

فَقَالَ لَهُ الفَرِّيسِيُّون: «أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ، فَشَهَادَتُكَ غَيْرُ صَادِقَة».

أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهُم: «وإِنْ أَشْهَدْ أَنَا لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي صَادِقَة، لأَنِّي أَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ أَتَيْتُ وإِلى أَيْنَ أَذْهَب. أَمَّا أَنْتُم فَلا تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ آتِي، ولا إِلى أَيْنَ أَذْهَب.

أَنْتُم كَبَشَرٍ تَدِينُون، وأَنَا لا أَدِينُ أَحَدًا.

وإِنْ كُنْتُ أَنَا أَدينُ فَدَيْنُونَتِي حَقٌّ هِيَ، لأَنِّي لَسْتُ وَحْدِي، بَلْ أَنَا والآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي.

لَقَدْ كُتِبَ فِي تَوْراتِكُم أَنَّ شَهَادَةَ ٱثْنَينِ هِيَ صَادِقَة.

فَأَنَا الشَّاهِدُ لِنَفْسِي، ويَشْهَدُ لِيَ الآبُ الَّذي أَرْسَلَنِي».

فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ أَبُوك؟». أَجَابَ يَسُوع: «لَسْتُم تَعْرِفُونِي أَنَا، ولا أَبِي، ولَو عَرَفْتُمُونِي لَعَرَفْتُم أَبِي أَيْضًا».

قَالَ يَسُوعُ هذَا الكَلام، وهُوَ يُعَلِّمُ فِي الهَيْكَل، عِنْدَ خِزَانَةِ المَال، ومَا قَبَضَ عَلَيْهِ أَحَد، لأَنَّ سَاعَتَهُ مَا كَانَتْ بَعْدُ قَدْ حَانَتْ.


الموعظة

يبدأ الكتاب المقدس بأولى آياته بهذه الكلمات: "1 فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ.2 وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً، وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ، وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ.3 وَقَالَ اللهُ: «لِيَكُنْ نُورٌ»، فَكَانَ نُورٌ." (تكوين 1: 1-3)، وينتهي بهذه الكلمات: "وَلاَ يَكُونُ لَيْلٌ هُنَاكَ، وَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلَى سِرَاجٍ أَوْ نُورِ شَمْسٍ، لأَنَّ الرَّبَّ الإِلهَ يُنِيرُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ سَيَمْلِكُونَ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ." (رؤيا 22: 5). وكل ما أتى في ما بين هذه الكلمات كان عبارة عن معركة بين النور والظلام، بين النهار والليل، بين الحق والباطل، وبين المعرفة والجهل.. هذا الصدام يدور حول الإنسان الذي يتحدّد مصيره الأخير بين النور والظلام، مثلما هو المصير بين الموت والحياة. فإذاً يحتل موضوع النور والظلمة مكاناً بارزاً بين الرموز الدينية، التي يلجأ إليها الكتاب المقدس. 

نرى يسوع يعلن نفسه، ولاسيما بأعماله وكلامه، إنه نور العالم. إن شفاء العميان له بهذا الصدد معنى خاص، كما يلاحظ يوحنا الإنجيلي ذلك، في حادث المولود أعمى (يوحنا 9). فيسوع يعلن إذاك: "ما دمتُ في العالم، فأنا نور العالم " (يوحنا 9: 5). وفي إنجيل اليوم يعلق: "من يتبعني، لا يمشِ في الظلام، بل له نور الحياة" (يوحنا 8: 12). "جئت إلى العالم نوراً، فمن آمن بي لا يقيم في الظلام " (يوحنا 12: 46). إن عمله المنير ينبع مما هو في ذاته: فهو كلمة الله ذاتها، وحياة البشر ونورهم، وهو النور الحقيقي الذي ينير كل إنسان آتٍ إلى العالم (يوحنا 1: 4، 9). كما أن الدراما التي تدور من حوله، ما هي إلا صدام بين النور والظلمات: فالنُور يُشرق في الظلمة (يوحنا 1: 5)، والعالم " الشرير يحاول إخفاءه، لأن الناس فضّلوا الظلمة على النور، لأن " أعمالهم كانت شريرة " (يوحنا 3: 19). وفي ساعة الآلام، عندما يخرج يهوذا من العلية ليسلم يسوع، يلاحظ يوحنا عن قصد، أن الليل كان قد أظلم (يوحنا 13: 30). ويعلن يسوع، عند القبض عليه: " ولكن تلك ساعتكم، وهذا سلطان الظلام " (لوقا 22: 53).

إن تأكيد يسوع على أنه هو نور العالم، لم يقبله الفريسيون، رغم أن أعماله تشهد له، لكن هناك ما يجعلهم (يدافعون عن الله)، وهو الشريعة والأعراف الدينية التي كانوا يعتنقونها ويعملون بموجبها، هي العائق، كظلمة الليل التي لا تدعهم يميزون ولا يبصرون من حولهم شيء.

لقد أعلن يسوع للفريسيين أنهم لا يعرفون الله، وبسبب عدم معرفتهم هذه هم في ظلمة، وليس هم فقط، بل كل العالم يسير في ظلمة ليلٍ طويل، والظلمة لا تدل فقط على الجهل، وإنما بالأكثر، على الضياع وعلى العيش بالباطل، فأعمال الشر مقرونة بالظلام.

إذا كان يسوع هو نور العالم فهو يخوض معركة طويلة الأمد مع ظلمة العالم، والمعركة، كما قلت، تدور بين النور والظلام حول الإنسان، وبمعنى آخر إن الإنسان هو موضوع الاستنارة من عدمها، وهو الذي بيده الخيار والقرار بأن يكون ابناً للظلمة وإما ابناً للنور، وما الظلمة إلاّ غياب النور؟ فإن كان الإنسان يبحث عن الحقيقة أو المعرفة أو أي شيء، حتى ذاته، فلن يجدها بعيداً عن الله، لأن الله هو الحقيقة والحق والمعرفة وهو كل شيء، هذه هي ماهيته، إنه النور الذي يُبدد الظلام.

علينا نحن اليوم أن نعترف بضرورة مُلحة، أننا نسير في الشر والخطيئة، إلى أبعد حد، كمن يسعى ليطفئ نور الحق، ومن الخطير جداً أن نتضامن على إبقاء الظلمة سائدة في عالمنا. ولم يعد مقبولاً ألاّ نسير في النور الذي هو حقيقة الله وحقيقتنا، فالعلاقة مع الله أخذت شكلاً منافٍ لحقيقتها، أصبحت تتمحور حول تلبية خدمات الإنسان، حتى في شره، ألم تسمعوا سارقاً يقول (الله يستر الليلة ويا رب ما ننكشف)، وكأن الله يصفّ بجانب الإنسان مهما فعل، إن هكذا تعاطي في العلاقة مع الله هو عيشٌ في ظلمة بحد ذاته، لأنني أريد أن يتبنى الله ظلمتي على أن أتبنى أنا نوره، وهذا الكفر بعينه، حيث أننا نجدف على روح الله الساكن فينا، ونخالف حقيقة ذواتنا. "فالَّذي يَعمَلُ لِلحَقّ فيُقبِلُ إِلى النُّور لِتُظهَرَ أَعمالُه وقَد صُنِعَت في الله" (يوحنا 3: 21).

إن الرب يسوع، الإنسان - الإله، وقد أتى نوراً وحقاً وشاهداً يدعونا لنتمثل به، وهو في الوقت عينه، العلامة الفارقة، أو المقياس والمعيار ، الذي به ومن خلاله أرى ذاتي وأقيّمها، إنه المرآة التي تكشف حقيقتي أمام نفسي، به تناهى الليل وابتدأ النهار، وصار كل شيء جديداً، إذاً فلنسلك كأبناء للنور في عالم الظلمة هذا، ونضيء بأعمالنا الحسنة مجد أبينا السماوي، له كل المجد إلى أبد الدهور، آمين.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.