رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس (3: 1-12) يا إِخوَتِي، أَنَا بُولُس، أَسِيرَ المَسيحِ يَسُوعَ مِنْ أَجْلِكُم، أَيُّهَا الأُمَم... إِنْ كُنْتُم قَدْ سَمِعْتُم بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي مِنْ أَجْلِكُم، وهوَ أَنِّي بِوَحْيٍ أُطْلِعْتُ على السِرّ، كَمَا كَتَبْتُ إِلَيكُم بإِيْجَازٍ مِنْ قَبْل، حِينَئِذٍ يُمْكِنُكُم، إِذَا قَرَأْتُمْ ذلِكَ، أَنْ تُدْرِكُوا فَهْمِي لِسِرِّ المَسِيح، هذَا السِّرِّ الَّذي لَمْ يُعْرَفْ عِنْدَ بَنِي البَشَرِ في الأَجْيَالِ الغَابِرَة، كَمَا أُعْلِنَ الآنَ بِالرُّوحِ لِرُسُلِهِ القِدِّيسِينَ والأَنْبِيَاء، وهُوَ أَنَّ الأُمَمَ هُم، في المَسِيحِ يَسُوع، شُرَكَاءُ لَنَا في المِيرَاثِ والجَسَدِ والوَعْد، بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيل، ألَّذي صِرْتُ خَادِمًا لَهُ، بِحَسَبِ هِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي بِفِعْلِ قُدْرَتِهِ؛ لي أَنَا، أَصْغَرِ القِدِّيسِينَ جَمِيعًا، وُهِبَتْ هذِهِ النِّعْمَة، وهِيَ أَنْ أُبَشِّرَ الأُمَمَ بِغِنَى المَسِيحِ الَّذي لا يُسْتَقْصى، وأَنْ أُوضِحَ لِلجَمِيعِ مَا هُوَ تَدْبِيرُ السِّرِّ المَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ في اللهِ الَّذي خَلَقَ كُلَّ شَيء، لِكَي تُعْرَفَ الآنَ مِن خِلالِ الكَنِيسَة، لَدَى الرِّئَاسَاتِ والسَّلاطِينِ في السَّمَاوات، حِكْمَةُ اللهِ المُتَنَوِّعَة، بِحَسَبِ قَصْدِهِ الأَزَلِيِّ الَّذي حَقَّقَهُ في المَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا، الَّذي لَنَا فيهِ، أَيْ بِالإِيْمَانِ بِهِ، الوُصُولُ بِجُرْأَةٍ وثِقَةٍ إِلى الله. إنجيل القدّيس يوحنّا (4: 31-38) فِي أَثْنَاءِ ذلِكَ، كَانَ التَّلامِيذُ يَطْلُبُونَ مِنْهُ قَائِلين: «رابِّي، كُلْ». فَقَالَ لَهُم: «أَنَا لِي طَعَامٌ آكُلُهُ وأَنْتُم لا تَعْرِفُونَهُ». فقَالَ التَّلامِيذُ بَعضُهُم لِبَعض: «هَلْ جَاءَهُ أَحَدٌ بِمَا يَأْكُلُهُ؟». قَالَ لَهُم يَسُوع: «طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةِ مَنْ أَرْسَلَنِي، وأَنْ أُتِمَّ عَمَلَهُ. أَمَا تَقُولُونَ أَنْتُم: هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَيَحِينُ الحِصَاد؟ وهَا أَنَا أَقُولُ لَكُم: إِرْفَعُوا عُيُونَكُم وٱنْظُرُوا الحُقُولَ إِنَّهَا قَدِ ٱبيَضَّتْ لِلحِصَاد. أَلحَاصِدُ يَأْخُذُ أُجْرَة، ويَجْمَعُ ثَمَرًا لِحَيَاةٍ أَبَدِيَّة، لِكَي يَفْرَحَ الزَّارِعُ والحَاصِدُ مَعًا. فيَصْدُقُ القَوْل: وَاحِدٌ يَزْرَعُ وآخَرُ يَحْصُد. أَنَا أَرْسَلْتُكُم لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا أَنْتُم فِيه. آخَرُون تَعِبُوا، وأَنْتُم في تَعَبِهِم دَخَلْتُم». الموعظة نص إنجيل اليوم هو الجزء الأخير من الأصحاح الرابع في إنجيل القديس يوحنا، وفيه يدور الحديث بين يسوع والمرأة السامرية عن الماء الحي والعطش، بينما التلاميذ كانوا قد ذهبوا يبتاعوا طعاماً. وعندما انطلقت المرأة السامرية لتُخبر أهل قرية السامرة (سوخار)، معلنةً إيمانها بيسوع، أتى التلاميذ وبدأوا يسألونه بأنْ "يا معلم كُلْ - رابِّي، كُلْ". لقاء يسوع والسامرية، وفيما بعد، كلامه مع التلاميذ، يوضّح لنا طريقة القديس يوحنا في عرض القصد الإلهي، حيث ينتقل مما هو ملحوظ أو محسوس، إلى ما هو أعمق، والدلائل كثيرة في إنجيل القديس يوحنا، فعلى سبيل المثال، نرى يسوع يطلب الماء لأنه عطشان، وبعد قليل ينتقل ليكون هو الذي يعطي الماء الحي، وعندما يدور الحديث حول الطعام، نراه يُعلن للتلاميذ أنه منشغل في عمل الآب، ويعتبر تتميم عمل الآب هو طعامه الحقيقي. وفي أماكن مختلفة في إنجيل يوحنا، نرى نفس الآلية، مثل لقاء يسوع مع نيقوديموس، وحديثه معه عن كيفية الولادة من فوق، أو في قصة طرد الباعة من الهيكل وحديثه مع اليهود عن هدم الهيكل وهو يُعيد بناءه في ثلاثة أيام، أو خبر عرس قانا الجليل، حيث الحقيقة تكمن في ارتباط الله (العريس) مع الإنسان (العروس)، وما تحويل الماء إلى خمر، إلّا للدلالة على دور المسيح في تحويل موت الإنسان إلى حياة. هناك الكثير من الأمثلة، وبالعودة إلى إنجيل اليوم، نرى نفس آلية الطرح، فالحديث يدور حول الطعام، وقبله حول الماء والعطش، والقصد هو إعلان دور يسوع في تتميم عمل الله، والأكثر، هو نقل هذه المهمة إلى التلاميذ، من خلال كلامه عن الحصاد والحقول التي ابيضت، وكيف سيحصد التلاميذ ما لم يتعبوا فيه، وفي الحقيقة، كل هذا، يتعلق في كيفية عيش الإيمان في العمق. نفس الكلام ينطبق علينا نحن اليوم، فها نحن نحصد ما لم نتعب فيه، آخرون تعبوا ونحن دخلنا على تعب أولئك: "أَنَا أَرْسَلْتُكُم لِتَحْصُدُوا مَا لَمْ تَتْعَبُوا أَنْتُم فِيه. آخَرُون تَعِبُوا، وأَنْتُم في تَعَبِهِم دَخَلْتُم". نتمتع نحن اليوم بالدور الرسولي الذي استلمه التلاميذ الأُوَل من الرب يسوع المسيح مباشرة، لكن لا بد لنا من الإقرار بالضعف، ولا بد لنا من أن نسأل: أين هي رسالة الكنيسة في عالم اليوم المليء بالتحديات المناقضة للقصد الإلهي؟ عالم اليوم يسعى بكل قواه لاستعباد الإنسان، كل شيء من حولنا يدعو للعبودية، في حين أن رسالة الله التي أخبرنا بها المسيح، مضمونها يكمن في تحرر الإنسان وهو ما نسميه الخلاص. بات عالم اليوم استهلاكياً بامتياز، حتى صار الإنسان نفسه، خاضعاً لسوق البيع والشراء. ضاقت المعاني الإنسانية، ولم يعد الإنسان يحمي نفسه أمام حاجاته، فالإنسان وصل لدرجة عالية جداً من الأنانية، بحيث لم يعد هناك مكاناً للحبّ في قلبه، فإما هو أو لا أحد. ضاعت أيضاً المعاني المسيحية، فلم يعد المسيحي ذاك الصارخ في وجه الباطل، ولم يعد تلك المنارة التي تُنير للجالسين في الظلمة، وببساطة أسلم نفسه ليكون سلعةً معروضة للبيع والشراء في سوق العالم. يسكن في جوار كنيستنا أشخاص غير مسيحيين، يسمعون صلواتنا وأجراس مناسباتنا، ولكنهم يبقون على حالهم ونحن نبقى على حالنا، دون أن يسألوا أين الحق؟ ولا نحن سألنا أين دورنا؟ وهناك أيضاً مسيحيون، لا يعني لهم أبداً أنهم مسيحيين، بل يُسَخّفُون كل معاني ارتباطهم بالكنيسة وبعملها، حتى هؤلاء لا يعني لهم نداء الله شيئاً. في هذه الأيام والكنائس مغلقة، بسبب وباء كورونا، يعتبر بعض الأشخاص، وهم كُثر، ومنهم إكليروس، أنّ إغلاق الكنائس هو ضد الإيمان، وفي نظرة سريعة إلى الوراء، قبل وباء كورونا، كان الحضور يقتصر على من كان حضورهم عادة لا أكثر، مع وجود القلائل الذين يجدوا في اجتماع الجماعة المسيحية ما يقويهم على أداء مهمتهم كاستمرار لعمل الرب يسوع في العالم، وهؤلاء صوتهم خافت وغير مسموع، لأن ضجة الباطل علت جداً، فصاروا نكرة في هذا العالم. من الطبيعي أن نحزن لأننا لا نمارس حياة الجماعة الكنسية كما اعتدنا عليها، ولكن من الطبيعي أيضاً، أن نسأل أين هو الإيمان الحقيقي؟ وماذا لو عادت الكنيسة إلى القرون الأولى حين كانوا يُصلون في البيوت وتحت الأرض، لأنهم كانوا مضطهدين؟ وصدقوا أو لا تصدقوا، نمت الكنيسة على إيمان أولئك الذين لم يكن لهم مكان اجتماع كالذي هو عندنا اليوم. من هنا علينا أن نسأل أين هو القصد الإلهي في حياتنا المسيحية؟ وخاصة عندما يتعلق الإيمان بكلمة يسوع اليوم للتلاميذ عن إرسالهم ليحصدوا ما لم يتعبوا فيه. أهذا هو الشكل الذي أراد يسوع أن نصل إليه؟ أن نبقى ضمن جدران أماكن العبادة؟ "وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ." (يوحنا 4: 23)، هذا كان جواب يسوع للسامرية عندما كانت تتحدث عن العبادة في الجبل والهيكل. يجب أن نسأل أنفسنا اليوم، هل طعامنا هو أن نعمل بمشيئة الله؟هل نحيا الإيمان في العمق؟ كل حياتنا تدور حول الطعام، نحن نعمل لنأكل، فهل نضفي معنى جديداً على هذا، ويصير سعينا للقوت الباقي للحياة الأبدية؟ هذا المعنى الجديد أعطاه يسوع للمرأة السامرية وللتلاميذ، من خلال حديثهم هم عن الماء والطعام، فنقلهم ليروا بعمق القصد الإلهي، فانطلقوا وأخبروا بالحقيقة، كل من رأوا، معبرين بذلك عن المعنى الجديد للحياة التي قبلوها من الرب مباشرةً، فهل نسلك نحن مثلهم اليوم؟ حبذا. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.عيش الإيمان في العمق
الأحد الرابع بعد القيامة