أين معموديتك؟ 

عيد الدنح ومعمودية الربّ وظهوره 


رسالة القدّيس بولس إلى طيطس (2: 11-15. 3: 1-7) 

يا إخوَتِي، إِنَّ نِعْمَةَ اللهِ قَدْ ظَهَرَتْ خَلاصًا لِجَمِيعِ النَّاس،

وهِيَ تُؤَدِّبُنَا لِنَحْيَا في الدَّهْرِ الحَاضِرِ بِرَزَانَةٍ وبِرٍّ وتَقْوَى، نَابِذِينَ الكُفْرَ والشَّهَوَاتِ العَالَمِيَّة،

مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ السَّعِيد، وظُهُورَ مَجْدِ إِلهِنَا ومُخَلِّصِنَا العَظِيمِ يَسُوعَ المَسِيح،

الَّذي بَذَلَ نَفْسَهُ عَنَّا، لِيَفْتَدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْم، ويُطَهِّرَنَا لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا، غَيُورًا على الأَعْمَالِ الصَّالِحَة.

تَكَلَّمْ بِهذِهِ الأُمُورِ وَعِظْ بِهَا، ووَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَان. ولا يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَد.

ذَكِّرْهُم أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّئَاسَاتِ والسَّلاطِين، ويُطِيعُوهُم، ويَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح،

ولا يُجَدِّفُوا على أَحَد، ويَكُونُوا غَيْرَ مُمَاحِكِين، حُلَمَاء، مُظْهِرِينَ كُلَّ ودَاعَةٍ لِجَميعِ النَّاس.

فَنَحْنُ أَيْضًا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أَغبِيَاء، عَاقِّين، ضَالِّين، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَواتٍ ولَذَّاتٍ شَتَّى، سَالِكِينَ في الشَّرِّ والحَسَد، مَمْقُوتِين، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا.

ولكِنْ لمَّا تَجَلَّى لُطْفُ اللهِ مُخَلِّصِنَا، ومَحَبَّتُهُ لِلبَشَر،

خَلَّصَنَا، لا بِأَعْمَالِ بِرٍّ عَمِلْنَاهَا، بَلْ وَفْقَ رَحْمَتِهِ، بِغَسْلِ المِيلادِ الثَّاني، وتَجْدِيدِ الرُّوحِ القُدُس،

الَّذي أَفَاضَهُ اللهُ عَلينَا بِغَزَارَة، بِيَسُوعَ المَسِيحِ مُخَلِّصِنَا.

فإِذا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ، نَصِيرُ وَارِثِينَ وَفْقًا لِرَجَاءِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة.

إنجيل القدّيس لوقا (3: 15-18.21-22)

فيمَا كانَ الشَّعْبُ يَنتَظِر، والجَمِيعُ يَتَسَاءَلُونَ في قُلُوبِهِم عَنْ يُوحَنَّا لَعَلَّهُ هُوَ المَسِيح،

أَجَابَ يُوحَنَّا قَائِلاً لَهُم أَجْمَعِين: «أَنَا أُعَمِّدُكُم بِالمَاء، ويَأْتي مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنِّي، مَنْ لَسْتُ أَهْلاً أَنْ أَحُلَّ رِبَاطَ حِذَائِهِ. هُوَ يُعَمِّدُكُم بِالرُّوحِ القُدُسِ والنَّار.

في يَدِهِ المِذْرَى يُنَقِّي بِهَا بَيْدَرَهُ، فيَجْمَعُ القَمْحَ في أَهْرَائِهِ، وأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لا تُطْفَأ».

وبِأَقْوَالٍ أُخْرَى كَثيرَةٍ كانَ يُوحَنَّا يَعِظُ الشَّعْبَ ويُبَشِّرُهُم.

ولمَّا ٱعْتَمَدَ الشَّعْبُ كُلُّهُ، وٱعْتَمَدَ يَسُوعُ أَيْضًا، وكانَ يُصَلِّي، ٱنفَتَحَتِ السَّمَاء،

ونَزَلَ عَلَيْهِ الرُّوحُ القُدُسُ في صُورَةٍ جَسَديَّةٍ مِثْلِ حَمَامَة، وجَاءَ صَوْتٌ مِنَ السَّمَاءِ يَقُول: «أَنْتَ هُوَ ٱبْنِي الحَبِيب، بِكَ رَضِيت».

الموعظة

نحتفل اليوم بعيد الدنح أو ما يُسمّى الغطاس، وهو عيد الظهور الإلهي على نهر الأردن.

جاء يسوع لينال العماد على يد يوحنا المعمدان، الذي كان يُعمّد على نهر الأردن، ويدور حوار بين يسوع ويوحنا مفاده أن يوحنا رفض أن يُعمّد يسوع لأنه هو محتاج أن يعتمد على يد يسوع، وكان جواب يسوع هو أنْ يجب تميم كل برّ.

تطرح معمودية يسوع سؤالاً: هل كان يسوع محتاجاً للمعمودية؟ من المؤكد أنه لا يحتاج للمعمودية التي ننالها نحن اليوم، إذ أننا نعتمد باسم الثالوث الأقدس الآب والابن والروح القدس، ولكن كان عليه اقتبال معمودية يوحنا التي هي لمغفرة الخطايا، لا لأنه خاطئ، بل ليدخل في عالم الإنسان، ويساوي نفسه به، فيحمل وزر خطيئته، وهذا ما نسمعه من يوحنا عندما أشار إليه وقال: "هذا هو حمل الله الحامل خطيئة العالم"، ولأنه أراد أن يُثبت صحة دعوة يوحنا الصوت الصارخ في البرية، الذي يُعِدّ لمجيئه.

عماد يسوع يُشكّل بداية حياته العلنية، والصليب يُشكّل ختام هذه الحياة العلنية، وعليه هو يُعلن من العماد إلى الصليب هويته كمخلص، فلا نفهم دخول يسوع في ماء الأردن على أنه أمر عادي، بل هو بداية العبور من الموت إلى الحياة، فالدخول في الماء هو علامة الموت والخروج منه هو علامة الحياة، هذا ما نراه في روايات العهد القديم، مع نوح وموسى ونعمان السرياني وآخرين.  

بين بداية حياة يسوع العلنية وختامها، عاش يسوع كل أبعاد الحياة الإنسانية، ليس في الفرح وحده، بل في الحزن والشقاء والألم والتعاسة والعنف، وما قبول يسوع للمعمودية إلّا قبولاً للطريق الموصلة إلى الصليب، حيث يأخذ ما نحن ماهرون في صنعه، وهو الموت، ويحوّله إلى حياة. هنا نجد قمة التبادل في الأدوار، حيث معطي الحياة يقبل الموت، والمائت يقبل الحياة.

لم يأتِ يسوع ليُبهر الإنسان بألوهيته، فلم يعش كإلهٍ على الأرض، بل عاش كإنسان، ودخل في المنطق الإنساني، فالمعمودية لا تضعنا خارج العالم، بل تؤهلنا لدخول العالم، إنها لا تبعدنا عن الخوض في تفاصيل الحياة، بل تجعلنا نقدس كل تفصيل فيها.

إنّ صوت الآب الذي يعلن: "هذا هو ابني الحبيب"، يكشف وجه العهد الجديد، إنه وجه حبّ، إنه صوت الاقتراب من الإنسان، حيث يعرف الإنسان دعوته وحقيقته، إنه صوتٌ يكشف هويتنا.

معمودية يسوع تكشف لنا ما يريد الله أن نكون، ففي الحقيقة نحن مدعوون لأن نكون على صورة المسيح الابن للآب، حيث لا نخاف أن نبدأ بالموت، لا نخاف تلك النهاية التي رأينا فيها يسوع مصلوباً، لأننا نعرف ونؤمن أن الحياة أُعطيت لنا من قِبَل الله، والقيامة تنتظرنا.

لا يمكننا فصل أي مشهد من حياة يسوع عن معنى الفصح، فبكل ما عمل وعلّم كان هناك عبور وتحوّل، وعليه نحن لا نستطيع أن نفهم معنى معموديتنا إلّا من خلال فهمنا لعملية العبور من الموت إلى الحياة، التي نسميها الفصح، ومن خلال عيشنا لذلك التحوّل، حيث ندع الله يحوّلنا إليه، ويجعلنا نحن وإياه واحداً.

إنّ عيشنا اليوم لمعنى معمودية يسوع يختلف كلياً عن المعنى العميق والجوهري لمفهوم الفصح العمادي، عيشنا اليوم متوقف عند رشة ماء على جدران، ورشفة ماء نستقيها لنتبارك منها وتزول أمراضنا الجسدية، إلى أكلة (زلابية)، إلى مفهوم عن أشجار تحني أغصانها في ليلة العيد.. الخ، ألا نرى أنفسنا أننا ابتعدنا عن مفهوم فصحنا العمادي؟ 

إن عيد الغطاس أو الدنح، كما نسميه نحن السريان، هو حدث فصحي بامتياز، به نصير أبناء الله ونولد ولادة جديدة، به نتغير ونتحوّل عن الإنسان العتيق لنصير خليقة جديدة، به نموت مع المسيح ونحيا معه، به ننتقل من العمى إلى النظر ومن البُكم إلى الكرازة ومن بشرية عقيمة إلى إنسانية خصيبة، به يصير كل إنسان مسيح آخر يعلن الحب دستور حياة.

لقد صرخ البابا القديس، يوحنا بولس الثاني، في زيارته الأولى إلى فرنسا، وقال: "فرنسا، فرنسا، أين معموديتك؟"، ولعلنا نحن اليوم نحتاج إلى تلك الصرخة وإلى ذاك الصارخ، فلا يكفي أن نصلي فقط بضع طقوس على مدار السنة، ولا يكفي أن نختبئ وراء قديسينا وتاريخنا المقدس، ونعتبر أن المسيحية هي حكر على أحد، ولا يكفي أن نتمم واجباتنا الدينية، فكل من لديه دين في هذه الدنيا يفعل ذلك، لكن علينا أن (نتجسد) إن صح التعبير، نجعل مسيحيتنا متجسدة، ندخل في منطق الله الذي صار إنساناً ليصير الإنسان الله.

إن أخذ الماء المقدس في عيد الدنح لا ينفع بشربه ولا برشه، بل بأخذه كعلامة استعداد للانتقال إلى حياة الله نفسه، فالله دخل في حياة الإنسان بيسوع المسيح، واقترب منا أكثر مما نتصور، صار نحن، لا لنأخذ بركته ونمضي، بل لنقبله ونصير هو.

لندع الله يُغيرنا، ولتكن لدينا الجرأة لنستسلم لعمل الروح القدس، فلا نخاف هموم الدنيا وتحدياتها، بل نسلك بكل إيمان، عابرين الحياة بكل رجاء، نزرع المحبة بكل وجه في الطريق، عالمين دعوتنا الحقيقية التي دعانا بها الرب، وهكذا نعيش معموديتنا.

 هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.