المحبة على مثال الثالوث الأقدس 

الأحد الأوّل بعد العنصرة 

أحد الثالوث الأقدس 


رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (2: 10-16) 
لكِنَّ اللهَ أَعْلَنَهُ لَنَا بِرُوحِهِ، لأَنَّ الرُّوحَ يَسْبُرُ كُلَّ شَيءٍ حَتَّى أَعْمَاقَ ٱلله.
فَمَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ مَا في الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذي فِيه؟ كَذَلِكَ لا أَحَدَ يَعْرِفُ مَا في اللهِ إِلاَّ رُوحُ الله.
وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ العَالَم، بَلِ ٱلرُّوحَ الَّذي مِنَ الله، حَتَّى نَعْرِفَ مَا أَنْعَمَ بِهِ ٱللهُ عَلَيْنَا مِنْ مَوَاهِب.
ونَحْنُ لا نَتَكَلَّمُ عَنْ تِلْكَ ٱلمَوَاهِبِ بِكَلِمَاتٍ تُعَلِّمُهَا ٱلحِكْمَةُ البَشَرِيَّة، بَلْ بِكَلِمَاتٍ يُعَلِّمُهَا ٱلرُّوح، فَنُعَبِّرُ عَنِ ٱلأُمُورِ الرُّوحِيَّةِ بِكَلِمَاتٍ رُوحِيَّة.
فَٱلإِنْسَانُ الأَرْضِيُّ لا يتَقَبَّلُ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ ٱلله، لأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَمَاقَة، ولا يَسْتَطيعُ أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ الله، لأَنَّ الحُكْمَ في ذَلِكَ لا يَكُونُ إِلاَّ بِالرُّوح.
أَمَّا الإِنْسَانُ الرُّوحَانِيُّ فَيَحْكُمُ عَلى كُلِّ شَيء، ولا أَحَدَ يَحْكُمُ عَلَيْه.
فَمَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ لِيُعَلِّمَهُ؟ أَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ المَسِيح!

إنجيل القدّيس متّى (28: 16-20)
أَمَّا التَّلامِيذُ ٱلأَحَدَ عَشَرَ فذَهَبُوا إِلى ٱلجَلِيل، إِلى ٱلجَبَلِ حَيثُ أَمَرَهُم يَسُوع.
ولَمَّا رَأَوهُ سَجَدُوا لَهُ، بِرَغْمِ أَنَّهُم شَكُّوا.
فدَنَا يَسُوعُ وكَلَّمَهُم قَائِلاً: «لَقَدْ أُعْطِيتُ كُلَّ سُلْطَانٍ في ٱلسَّمَاءِ وعَلى ٱلأَرْض.
إِذْهَبُوا إِذًا فَتَلْمِذُوا كُلَّ ٱلأُمَم، وعَمِّدُوهُم بِٱسْمِ ٱلآبِ وٱلٱبْنِ وٱلرُّوحِ ٱلقُدُس،
وعَلِّمُوهُم أَنْ يَحْفَظُوا كُلَّ مَا أَوْصَيْتُكُم بِهِ. وهَا أَنَا مَعَكُم كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلى نِهَايَةِ ٱلعَالَم».

الموعظة

في كل مرة نتكلم عن الثالوث الأقدس نتلعثم ونرتبك، وتقفل عقولنا أبوابها أمام هذا السرّ، لا بل نتجنب الخوض في فهمه بقولنا: إنه سرٌّ صعب، ويأخذ الإيمان المسيحي صعوبته، بحيث يقتصر فهم الثالوث الأقدس على اللاهوتيين دون عامة الشعب، وفي الحقيقة لا تحتاج أمي وجدتي إلّا لإضاءة شمعة على نيتي أمام أيقونة العذراء، هكذا يَعِشْنَ إيمانهن.

صعوبة فهم الثالوث الأقدس تكمن في كيفية أن يكون الله ثلاثة وواحد في آنٍ معاً، إلّا أننا نستطيع أن نفهم هذا السرّ، أي أن هناك إمكانية لذلك، من خلال فهم ما تعني المحبة وما تعني الوحدة أيضاً.

كلمة "سرّ" في المسيحية لا تعني ما لا يجب على أحد معرفته، وإنما ما أنا مدعو لاكتشافه، إما بنفسي أو عن طريق آخر، وأنّ هناك حقيقة لم أكتشفها بعد، وإنما تتجلى أمامي بصور مختلفة، وسرّ الله الثالوث كشفه الرب يسوع المسيح. لا بقوله أنا والآب والروح القدس ثلاثة، بل بالمحبة التي تجعله يفعل كل شيء من أجل الآب.

كشف الرب يسوع المسيح، أنه لا يحيا لذاته، بل لأجل الآخرين، وهذا ما نسميه نحن الحبّ، فالحبّ يبدأ "انطلاقاً من"، أنطلق أنا إلى الآخر من أجله هو، لا من أجلي أنا. وهذا الحبّ هو الذي يقودني للآخر لأكون أنا وهو واحداً، لا بطمس الهوية بل بالمحافظة عليها، وبعبارة أخرى، تتوحد نظرتنا إلى الحياة من خلال الحبّ.

هذا الأمر، أي المحبة على مثال محبة الثالوث الأقدس ووحدته، يفضح، إذا جاز التعبير، عالمنا، إذ يجعلنا ندرك أنّ كل ما نمرُّ به من صعوبات وانتهاك حقوق، وشرذمة وتفكك على كل المستويات الحياتية، وفي كل بلدان العالم، سببها عدم عيش المحبة وبالتالي نصبح غير قادرين على الوحدة.

إن كنا نستطيع أن نقول: إن الله محبة، فهذا يعني أننا نستطيع أن ندرك ما فعله الله لأجلنا، أي أعماله تكشف عنه، وبنفس المعادلة نقيس عالم اليوم، فأعماله تكشفه، ولكي نكون واقعيين أكثر نقول: أعمال الإنسان هي التي تكشفه، وذلك لكي نضع يَدَنَا على الجرح، بقصد معرفة أين الخلل الذي يُصيب عالمنا.

لقد مَرَرْنَا ونَمُرّ بأزمات إنسانية، فالحروب أثقلت كاهلنا، والعنف ولّد العنف، وأصبح عالمنا لا يُطاق، فمن سوريا إلى العراق إلى لبنان إلى فلسطين، إلى نيجيريا وأفغانستان واليمن ..إلخ، إلى الولايات المتحدة الأمريكية وما تشهده اليوم، ألا يكفي كل ما جرى ويجري ليكشف لنا أعمال الإنسان ويُظهر كم هو بحاجة إلى عيش المحبة على مثال الله؟

إن لم يكن الله ثالوثاً افتقر إلى المحبة والوحدة، فمن يُحب ومع من يتحد إن كان واحداً أحد؟ وإن افتقر الله إلى المحبة لم يَعُد الله، يُصبح طاغوتاً من طغاة هذا العالم. وإن افتقر عالمنا إلى المحبة، وهذا ما آل إليه، افتقر إلى الإنسانية وبالتالي أصبح عالماً تحكمه شريعة الغاب. لأن المحبة تستدعي عدم الإنغلاق على الذات، والحال أننا بتنا منغلقين على ذواتنا، فأصبحنا أكثر عدوانية تجاه بعضنا بعضاً.

من يُنقذنا اليوم؟ هل نحن بحاجة إلى مُخلِّص جديد؟ ألا يكفي ما كشفه الرب يسوع المسيح عن الله أنه محبة؟

بلى يكفي، ولكن إن تبنّى الإنسان روح الله ولم يبقى تحت نير روح هذا العالم، وهذا حسب ما قاله القديس بولس في رسالته اليوم، حيث قال: "فَٱلإِنْسَانُ الأَرْضِيُّ لا يتَقَبَّلُ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ ٱلله، لأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَهُ حَمَاقَة، ولا يَسْتَطيعُ أَنْ يَعْرِفَ مَا هُوَ مِنْ رُوحِ الله، لأَنَّ الحُكْمَ في ذَلِكَ لا يَكُونُ إِلاَّ بِالرُّوح. أَمَّا الإِنْسَانُ الرُّوحَانِيُّ فَيَحْكُمُ عَلى كُلِّ شَيء، ولا أَحَدَ يَحْكُمُ عَلَيْه. فَمَنْ عَرَفَ فِكْرَ الرَّبِّ لِيُعَلِّمَهُ؟ أَمَّا نَحْنُ فَلَنَا فِكْرُ المَسِيح!".

إنّ ما تعنيه الكنيسة مهمٌ للغاية، فهي تأخذ وجه الشمولية، والجنس البشري برمته مَعني بعيش الحبّ، وعندما يعيش الإنسان هذا الحبّ، فهو يسمح للآخر، المختلف عنه، بأن يكون فريداً ومختلفاً، والحبّ لكي يكون حبّاً حقيقياً، فهو يستمد كل معناه من الله الثالوث، فعلى مثال العلاقة بين الآب والابن والروح القدس، التي هي بدون أدنى شك، علاقة حبّ، هكذا على الجماعة البشرية أن تحيا في الحبّ. أي أن تتحوّل البشرية إلى جماعة تسودها المحبة هذا ما تعنيه الكنيسة التي تستمد كل معناها من الثالوث الأقدس.

فقط المسيحية تؤمن بهذا، على خلاف الباقين، وهذا ما يُقَلِّصُ عيش المحبة في العالم، ومن هنا يأتي كل المعنى لأن نكون مسيحيين، أي أن نعي دعوتنا، وهي العمل على إنشاء حضارة المحبة في البشرية، وتحويل البشرية إلى كنيسة شاملة، وعلينا أن نفهم أن كلمة كنيسة لا تخص المسيحيين وحدهم، بل هي تطال كل إنسان، وإن بشكل غير منظور، وإن لم ينتمي الإنسان بشكل مباشر إلى المسيحية عبر المعمودية.

عندما يقول يسوع في إنجيل اليوم موصياً التلاميذ: "عَمِّدُوهُم بِٱسْمِ ٱلآبِ وٱلٱبْنِ وٱلرُّوحِ ٱلقُدُس"، لا يعني هذا إجبار الآخرين على الانضمام إلى الكنيسة في المعنى الضيق الذي تعيشه هي نفسها اليوم، وإنما يعني هذا أنّ على من يؤمن بالثالوث الأقدس أن يعمل على تغيير الواقع الذي لا حُبَّ فيه، والذي يحتاج إلى الحبّ، وأن يكون لله حضوراً في العالم، وهذا ما يضمن السلام بين الناس على كافة المستويات، ويُصبح العالم، الملكوت الذي نادى به الرب يسوع المسيح في كل مسيرته وعمل من أجله.

إن وصية يسوع للتلاميذ تطالنا نحن اليوم، إننا معنيون بها، وبالرغم من الهموم التي تجعلنا نتوه عن الهدف الذي من أجله نحن كنيسة مُرسلة إلى العالم، لكننا نبقى شهود الحبّ، فعلينا ألّا ننسى دعوتنا، بل نسعى جاهدين بكل جديّة، لنعيش المحبة التي بها يتلخص كل إيماننا.

 هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.