المحبة غاية الوصية 

الأحد الخامس بعد القيامة 

رسالة القدّيس بولس الأولى إلى طيموتاوس (1: 1-17) 

بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، بِحَسَبِ أَمْرِ اللهِ مُخَلِّصِنَا، وَرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، رَجَائِنَا.

إِلَى تِيمُوثَاوُسَ، الابْنِ الصَّرِيحِ فِي الإِيمَانِ: نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.

كَمَا طَلَبْتُ إِلَيْكَ أَنْ تَمْكُثَ فِي أَفَسُسَ، إِذْ كُنْتُ أَنَا ذَاهِبًا إِلَى مَكِدُونِيَّةَ، لِكَيْ تُوصِيَ قَوْمًا أَنْ لاَ يُعَلِّمُوا تَعْلِيمًا آخَرَ،

وَلاَ يُصْغُوا إِلَى خُرَافَاتٍ وَأَنْسَابٍ لاَ حَدَّ لَهَا، تُسَبِّبُ مُبَاحَثَاتٍ دُونَ بُنْيَانِ اللهِ الَّذِي فِي الإِيمَانِ.

أَمَّا غَايَةُ هذِهِ الوَصِيَّةِ فإِنَّمَا هِيَ المَحَبَّةُ بقَلْبٍ طَاهِر، وضَمِيرٍ صَالِح، وإِيْمَانٍ لا رِيَاءَ فيه.

وقَد زَاغَ عَنْهَا بَعضُهُم، فَٱنْحَرَفُوا إِلى الكَلامِ البَاطِل،

وأَرادُوا أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي الشَّرِيعَة، وهُم لا يُدْرِكُونَ ما يَقُولُونَ ولا مَا يُؤَكِّدُون.

ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ صَالِحَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا،

وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لا تُوضَعُ لِلبَارّ، بَلْ لِلأَثَمَة، وَالعُصَاة، والكَفَرَة، والخَطَأَة، ومُنْتَهِكِي الحُرُمَات، والمُدَنِّسِين، وقَاتِلِي الآبَاء، وقَاتِلِي الأُمَّهَات، والقَتَلَة،

والفُجَّار، ومُضاجِعِي الذُّكُور، والمُتَاجِرينَ بِالبَشَر، والكَذَبَة، والحَانِثِين، وأَيِّ شَيءٍ آخَرَ يُخَالِفُ التَّعْلِيمَ الصَّحِيح،

وَفْقَ إِنْجِيلِ مَجْدِ اللهِ السَّعِيد، الَّذي ٱئْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيه.

أَشْكُرُ المَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا، الَّذي قَوَّاني، لأَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِينًا فَجَعَلَنِي لِلخِدْمَة،

أَنَا الَّذي كُنْتُ مِنْ قَبْلُ مُجَدِّفًا ومُضْطَهِدًا وشَتَّامًا، لكِنَّ اللهَ رَحِمَنِي، لأَنِّي فَعَلْتُ ذلِكَ وأَنَا جَاهِلٌ غَيرُ مُؤْمِن.

لَقَد فَاضَتْ عَلَيَّ نِعْمَةُ رَبِّنَا معَ الإِيْمَانِ والمَحَبَّةِ الَّتِي في الْمَسِيحِ يَسُوع.

صَادِقَةٌ هِيَ الكَلِمَةُ وجَدِيرَةٌ بكُلِّ قَبُول: أَنَّ المَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلى العَالَمِ لِيُخَلِّصَ الخَطأَة، وَأَوَّلُهُم أَنَا.

لكِنَّ المَسِيحَ يَسُوعَ رَحِمَنِي، لِيُظْهِرَ كُلَّ أَنَاتِهِ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً، مِثَالاً للَّذِينَ سَيُؤمِنُونَ بِهِ لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة.

فَلِمَلِكِ الدُّهُورِ الخَالِدِ غَيرِ المَنْظُور، الإِلهِ الوَاحِد، ٱلكرَامَةُ والمَجْدُ إِلى أَبَدِ الآبِدِين. آمين!

إنجيل القدّيس لوقا (9: 51-62)

وَلَمَّا تَمَّتِ الأَيَّامُ لِيُرْفَع، صَمَّمَ يَسُوعُ بِعَزْمٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلى أُورَشَلِيم.

وَأَرْسَلَ رُسُلاً أَمَامَ وَجْهِهِ، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِريِّين، لِكَي يُعِدُّوا لِقُدُومِهِ.

فَلَمْ يَقْبَلْهُ السَّامِرِيُّون، لأَنَّهُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى أُورَشَليم.

وَلَمَّا رأَى ذلِكَ تِلمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالا: «يا رَبّ، هَلْ تُرِيدُ أَنْ نَأْمُرَ بِأَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتُفْنِيَهُم؟».

فٱلْتَفَتَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ وَأَنَّبَهُمَا.

ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى.

وفِيمَا هُم سَائِرُونَ في الطَّرِيق، قَالَ لَهُ أَحَدُهُم: «سَأَتْبَعُكَ حَيثُمَا تَذْهَب!».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجَار، ولِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكار. أَمَّا ٱبْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يُسْنِدُ إِلَيْه رَأْسَهُ».

وقالَ يَسُوعُ لآخَر: «إِتْبَعْنِي!». فقَال: «ٱئْذَنْ لي أَنْ أَذْهَبَ أَوَّلاً فَأَدْفِنَ أَبي».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «دَعِ المَوتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم، أَمَّا أَنْتَ فٱمْضِ وبَشِّرْ بِمَلَكُوتِ الله».

وقَالَ آخَرُ لِيَسُوع: «يَا رَبّ، سَأَتْبَعُكَ، لكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ أَهْلَ بَيْتِي».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى المِحْرَاثِ وَيَلْتَفِتُ إِلَى الوَرَاء، يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ الله».

الموعظة

في رسالته الأولى إلى تلميذه طيموتاوس، يبدأ القديس بولس بطلبٍ إلى تلميذه بأن يوصي أناساً زاغوا عن الإيمان واتجهوا إلى الخرافات والأوهام، بأن يعودوا ويعرفوا أن غاية الوصية هي المحبة، وهذه المحبة لا تعاش على مستوى الشريعة، إذ يقول له: " أَمَّا غَايَةُ هذِهِ الوَصِيَّةِ فإِنَّمَا هِيَ المَحَبَّةُ بقَلْبٍ طَاهِر، وضَمِيرٍ صَالِح، وإِيْمَانٍ لا رِيَاءَ فيه. وقَد زَاغَ عَنْهَا بَعضُهُم، فَٱنْحَرَفُوا إِلى الكَلامِ البَاطِل،وأَرادُوا أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي الشَّرِيعَة، وهُم لا يُدْرِكُونَ ما يَقُولُونَ ولا مَا يُؤَكِّدُون."

إن الهدف من كل شيء في الدين، هو عيش المحبة، وأيّ وصية أو شريعة تقضي بخلاف ذلك، يحق لنا أن نلغيها، حتى ولو كانت في الكتب المقدسة. وذلك لأن من البداية إلى النهاية يبقى الله محبة.

ليست الصلاة، ليست العبادة، وليس الدين، مواقف خاصة بالدين المسيحي، الوثنيين لهم صلاتهم وارتباطهم بإلههم، كما هو حال كل الأديان الموجودة على الأرض، وهنا نستطيع أن نميّز بين الدين والإيمان، رغم ارتباطهما الوثيق، فدائماً يُعتبر الدين مسعىً بشرياً محضاً، أي ما يشرعه الإنسان ليوثق إيمانه بالإله الذي يعتقد به، على خلاف الإيمان الذي هو موقف استجابة إلى مبادرة قام بها الله تجاه الإنسان. وهنا نؤكد أن الدين المسيحي برمته، على تنوع ثقافة المؤمنين فيه، يبقى محافظاً على الإيمان أكثر من تشريع مقتضيات العيش الديني، وذلك ما يُكسب في الحقيقة، الدين المسيحي كل معناه، أي أنه دائماً يُجيب من خلال (التديّن)، على مبادرة الله بابنه يسوع المسيح.

ما يثير التخوف من رجال دين اليوم أكثر من أي يوم مضى، هو أن يُصبح التوجه الديني وثني، وبالنسبة للمسيحيين، أن يحوّل الكهنوت، إلى كهنوت وثني.

تاريخ الأديان يكشف لنا ارتباط الدين بالسلطة السياسية، وكلما أراد الملك - الامبراطور - الرئيس ..الخ، أن يضع حدوداً أو ضوابط لشعبه، طلب من رجال الدين أن يقوموا بالدور. وبما أنّ ارتباط رجال الدين بالساسة يمنحهم نفوذاً وهيمنة وسلطة، فهذا جعلهم، يوماً بعد يوم، يُحوّلون المنحى الإيماني العميق للدين، إلى ممارسات دينية خاضعة للقوانين، وبالتالي أصبحت عادة، فانحرفت المعاني الدينية، لتصبح بعيدة عن جوهر الإيمان، وهذا ما من شأنه أن يُبعد الإنسان عن الله وجوهر مبادرته. 

هذا ما دفع مَن طلب منه يسوع في إنجيل اليوم أن يتبعه، أن يقول له: "ٱئْذَنْ لي أَنْ أَذْهَبَ أَوَّلاً فَأَدْفِنَ أَبي"، فالشريعة تقول أكرم أباك وأمك، حتى الممات، وأما شريعة المحبة التي بها عبّر الرب يسوع المسيح عن مبادرة الله، فكانت "دَعِ المَوتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم، أَمَّا أَنْتَ فٱمْضِ وبَشِّرْ بِمَلَكُوتِ الله".

وها نحن اليوم نهتم بتتميم تلك الشرائع أكثر من عيش الإيمان؛ نُصِّر على الصلاة الظاهرية والتردادية دون الولوج إلى العمق، ودون عيش متطلبات الإيمان، ففي صلاتنا نطلب ما لنا وما يجب أن يحققه لنا هذا الإله الذي نصلي له، ولا نفكر ولو للحظة، بما يطلبه هو. لذلك نجد أنفسنا لا نتقدم على الصعيد الروحي والإنساني، وليس هذا فحسب، بل إن ضميرنا مرتاح إذ إننا قمنا بأداء واجب العبادة والصلاة، أليس هذا ما فعله الفريسي في مثل الفريسي والعشار؟

من هنا لا بدّ لنا أن نعي أن اتباع يسوع في الطريق لا يعني اتباع شرائع وقوانين، كمن يعمل في مؤسسة أو شركة. من يتبع يسوع يتبعه في محبته، ومحبة يسوع طريقها أورشليم، طريقها طريق آلام ممزوجة بحب الآخرين ولأجل الآخرين. والارتباط الديني عليه أن يتمحور حول هذه الفكرة، وإلاّ نكون عرضة للوثنية التي لا تبغي إلاّ أن تسترضي الإله وتُلبّى حاجاتها منه، ولا تتمتع بدورها الجوهري. 

"وَلَمَّا تَمَّتِ الأَيَّامُ لِيُرْفَع، صَمَّمَ يَسُوعُ بِعَزْمٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلى أُورَشَلِيم."، بهذه الكلمات بدأ إنجيل اليوم، وبهذه الكلمات سأختم عظتي، لأقول: في النهاية ما الغاية من كل هذا؟ الصلاة والشرائع والعبادات والطقوس؟؟ أليست أدوات في يد المؤمن بها يبني علاقته مع الله؟ نعم كلها أدوات تخدمنا في طريقنا إلى أورشليم السماوية، حيث اللقاء الذي هو ليس إلاّ لقاء محبة وشركة بين المُتَحَابّين. لهذا فإن "غَايَةُ هذِهِ الوَصِيَّةِ فإِنَّمَا هِيَ المَحَبَّةُ بقَلْبٍ طَاهِر، وضَمِيرٍ صَالِح، وإِيْمَانٍ لا رِيَاءَ فيه. ".  

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.