الأحد الخامس بعد القيامة

أتبعك يا سيد

رسالة القدّيس بولس الأولى إلى طيموتاوس (1: 5-17)

أَمَّا غَايَةُ هذِهِ الوَصِيَّةِ فإِنَّمَا هِيَ المَحَبَّةُ بقَلْبٍ طَاهِر، وضَمِيرٍ صَالِح، وإِيْمَانٍ لا رِيَاءَ فيه.

وقَد زَاغَ عَنْهَا بَعضُهُم، فَٱنْحَرَفُوا إِلى الكَلامِ البَاطِل،

وأَرادُوا أَنْ يَكُونُوا مُعَلِّمِي الشَّرِيعَة، وهُم لا يُدْرِكُونَ ما يَقُولُونَ ولا مَا يُؤَكِّدُون.

ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ صَالِحَةٌ لِمَنْ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَاهَا،

وهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ لا تُوضَعُ لِلبَارّ، بَلْ لِلأَثَمَة، وَالعُصَاة، والكَفَرَة، والخَطَأَة، ومُنْتَهِكِي الحُرُمَات، والمُدَنِّسِين، وقَاتِلِي الآبَاء، وقَاتِلِي الأُمَّهَات، والقَتَلَة،

والفُجَّار، ومُضاجِعِي الذُّكُور، والمُتَاجِرينَ بِالبَشَر، والكَذَبَة، والحَانِثِين، وأَيِّ شَيءٍ آخَرَ يُخَالِفُ التَّعْلِيمَ الصَّحِيح،

وَفْقَ إِنْجِيلِ مَجْدِ اللهِ السَّعِيد، الَّذي ٱئْتُمِنْتُ أَنَا عَلَيه.

أَشْكُرُ المَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا، الَّذي قَوَّاني، لأَنَّهُ حَسِبَنِي أَمِينًا فَجَعَلَنِي لِلخِدْمَة،

أَنَا الَّذي كُنْتُ مِنْ قَبْلُ مُجَدِّفًا ومُضْطَهِدًا وشَتَّامًا، لكِنَّ اللهَ رَحِمَنِي، لأَنِّي فَعَلْتُ ذلِكَ وأَنَا جَاهِلٌ غَيرُ مُؤْمِن.

لَقَد فَاضَتْ عَلَيَّ نِعْمَةُ رَبِّنَا معَ الإِيْمَانِ والمَحَبَّةِ الَّتِي في الْمَسِيحِ يَسُوع.

صَادِقَةٌ هِيَ الكَلِمَةُ وجَدِيرَةٌ بكُلِّ قَبُول: أَنَّ المَسِيحَ يَسُوعَ جَاءَ إِلى العَالَمِ لِيُخَلِّصَ الخَطأَة، وَأَوَّلُهُم أَنَا.

لكِنَّ المَسِيحَ يَسُوعَ رَحِمَنِي، لِيُظْهِرَ كُلَّ أَنَاتِهِ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً، مِثَالاً للَّذِينَ سَيُؤمِنُونَ بِهِ لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة.

فَلِمَلِكِ الدُّهُورِ الخَالِدِ غَيرِ المَنْظُور، الإِلهِ الوَاحِد، ٱلكرَامَةُ والمَجْدُ إِلى أَبَدِ الآبِدِين. آمين!


إنجيل القدّيس لوقا (9: 51-62)

وَلَمَّا تَمَّتِ الأَيَّامُ لِيُرْفَع، صَمَّمَ يَسُوعُ بِعَزْمٍ أَنْ يَتَوَجَّهَ إِلى أُورَشَلِيم.

وَأَرْسَلَ رُسُلاً أَمَامَ وَجْهِهِ، فَذَهَبُوا وَدَخَلُوا قَرْيَةً لِلسَّامِريِّين، لِكَي يُعِدُّوا لِقُدُومِهِ.

فَلَمْ يَقْبَلْهُ السَّامِرِيُّون، لأَنَّهُ كَانَ مُتَوَجِّهًا إِلَى أُورَشَليم.

وَلَمَّا رأَى ذلِكَ تِلمِيذَاهُ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، قَالا: «يا رَبّ، هَلْ تُرِيدُ أَنْ نَأْمُرَ بِأَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتُفْنِيَهُم؟».

فٱلْتَفَتَ إِلَيْهِمَا يَسُوعُ وَأَنَّبَهُمَا.

ثُمَّ ذَهَبُوا إِلَى قَرْيَةٍ أُخْرَى.

وفِيمَا هُم سَائِرُونَ في الطَّرِيق، قَالَ لَهُ أَحَدُهُم: «سَأَتْبَعُكَ حَيثُمَا تَذْهَب!».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجَار، ولِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكار. أَمَّا ٱبْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يُسْنِدُ إِلَيْه رَأْسَهُ».

وقالَ يَسُوعُ لآخَر: «إِتْبَعْنِي!». فقَال: «ٱئْذَنْ لي أَنْ أَذْهَبَ أَوَّلاً فَأَدْفِنَ أَبي».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «دَعِ المَوتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم، أَمَّا أَنْتَ فٱمْضِ وبَشِّرْ بِمَلَكُوتِ الله».

وقَالَ آخَرُ لِيَسُوع: «يَا رَبّ، سَأَتْبَعُكَ، لكِنِ ٱئْذَنْ لِي أَوَّلاً أَنْ أُوَدِّعَ أَهْلَ بَيْتِي».

فقَالَ لَهُ يَسُوع: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى المِحْرَاثِ وَيَلْتَفِتُ إِلَى الوَرَاء، يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ الله».

الموعظة

يعرض لنا الكتاب المقدس العلاقة مع الله على أنها دعوة لاتباعه، رغم اختلاف الظروف المحيطة والشخصيات المدعوة، إلا أن الدعوة لاتباع الله تصب في تلبية هذه الدعوة حسب معايير الله، لا حسب معايير البشر وظروف حياتهم المتنوعة.

وها هو نص إنجيل اليوم يُقدم لنا عرضاً لمعايير الله لتلبية الدعوة من جهة، ومن جهة أخرى، يعرض الشخصيات المختلفة والظروف التي كانت تحيط بهم، ونستطيع أن نقسم هذا النص إلى أربعة مشاهد أو حالات:

الأولى وهي حالة من بالفعل يتبع يسوع، أي من قام باتباع يسوع ويسوع قبل تبعيتهم، كالأخوين يعقوب ويوحنا (ابني الرعد حسب مرقس 3: 17)، ونرى أنه بالرغم من سيرهما مع يسوع، ووجودهما معه بمختلف الأماكن والحالات التي كان يسوع يوجد فيها ويصنع معجزاته ويُعلن ملكوت الله، إلا أنهما لم يستطيعا التطلع كفايةً إلى ماهية رسالة يسوع الحقيقية، فقالا له: «يا رَبّ، هَلْ تُرِيدُ أَنْ نَأْمُرَ بِأَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ وَتُفْنِيَهُم؟». وهذا عن السامريين الذين لم يقبلوا مرور يسوع بقريتهم وهو ذاهب إلى أورشليم. وكان قد سبق أيضاً للتلميذ يوحنا أن اعترض على شخص ينادي ويطرد الشياطين باسم يسوع وقام بمنعه، إلا أن يسوع كان يحاول دائماً أن يقوّم ويضبط المفاهيم الخاطئة عنه، فهو لم يأتي ليُهلك بل ليخلص، والجميع، مهما كانوا، ومن موقعهم، يستطيعون أن يعملوا باسمه، فهو لهم جميعاً.

الثانية وهي حالة من طلب من يسوع أن يتبعه،  وهذا الرجل أظهر استعداداً باتباع يسوع إلى أي مكان، وحسب مسيرة يسوع إلى أورشليم ليقبل الآلام والموت، كان من المفترض أن يعرض يسوع له أنه ذاهب للموت، ولكن نفاجئ بكلام يسوع، إذ قال: «لِلثَّعَالِبِ أَوْجَار، ولِطُيُورِ السَّمَاءِ أَوْكار. أَمَّا ٱبْنُ الإِنْسَانِ فَلَيْسَ لَهُ مَوْضِعٌ يُسْنِدُ إِلَيْه رَأْسَهُ»،  والعبارة "مَوْضِعٌ يُسْنِدُ إِلَيْه رَأْسَهُ" تذكّرنا ببيت لحم (2: 7: "لم يكن لهما مكان حيث حلاّ"). ومن جهة أخرى، نستطيع أن نقرأ كلام يسوع هذا على أنه رفض لهذا الشخص، وهذا الرفض قائم على أن يسوع لم يجد في قلب هذا الشخص موضع يسند إليه رأسه، لأنه كان ماكراً كالثعالب ومختبئاً خلف المجد الذي سيناله أمام الناس من جراء اتباعه ليسوع، وهو متكبر ويحاول أن يرفع نفسه أمام الآخرين لينظروا إليه وهو مرتفع كالطيور في السماء.

الثالثة وهي حالة من طلب منه يسوع أن يتبعه، ونرى أن هذا الرجل طلب تأجيل الاتباع ريثما يهتم بشرائع وعادت دفن أباه الميت، لقد تحجج هذا بشريعة تفرضها السّنة اليهودية في إكرام الوالدين، ونرى أن يسوع بكلامه: «دَعِ المَوتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُم، أَمَّا أَنْتَ فٱمْضِ وبَشِّرْ بِمَلَكُوتِ الله»، أوّلى ملكوت الله على أولويات سائر الأمور الضرورية، وبحسب فكر يسوع، لم تعد العادات الجنائزية وسائر أمورها مهمة بهذا القدر، فإن النسوة اللواتي ذهبن إلى القبر في اليوم الثالث رجعوا ومعهم الحنوط الذي أعددنه لتكريم الميت الذي لم يجدوه لأنه قام.

الرابعة وهي حالة من يريد أن يتبع يسوع ولكنه لم يتحرر من ماضيه، وهذا الرجل لم يستطع أن يتقدم إلى الأمام، فهو يريد أن يودّع أهل بيته، ونستطيع أن نرى بأهل البيت أمران: أولهما العائلة والأهل والارتباطات والعلاقات، وثانيهما الأهواء والارتباطات العالمية من خلال الحواس البشرية الخمس، وكلنا نعرف أننا نحِنّ إلى المشاعر والأحاسيس القديمة التي سبق وأعطتنا شعوراً تمتعنا به من خلال حواسنا. وهذه الحالة تتمثل بحنيننا إلى الماضي، فلا تدعنا نتقدم إلى الأمام، وإنما نتطلع دائماً إلى الوراء، وهذا ما سيجعل يسوع يقول: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى المِحْرَاثِ وَيَلْتَفِتُ إِلَى الوَرَاء، يَصْلُحُ لِمَلَكُوتِ الله». ويذكرنا كلام يسوع بإمراة لوط التي خلصت بخروجها من سدوم مع لوط وابنتيها، لكنها لم تكمل الطريق بل اِرتدَّت بقلبها فهلكت.

مما تقدم نخلص إلى المعنى الروحي، ولا بد لنا من فهم إطار الحالات المتنوعة في هذا النص.

يعرض القديس لوقا هذا النص ضمن مسيرة يسوع إلى أورشليم، إلى الآلام والموت، وهذا يعني ليسوع عبوراً واتخاذاً لقرار حاسم في حياته، ومما لا شك فيه أنه أخذ القرار بكل حرية ووعي لدوره الذي سيُنقذ به البشرية من ظلامها. ويظهر أن يسوع يريد من أتباعه أن يحصلوا على الوعي الكافي والوافي لأهمية اتخاذ القرار المسؤول والحر، فالإنسان لا يكون حراً، بكل ما للكلمة من معنى، إلا إذا كان قادراً على اتخاذ القرار. فما يصنعنا أناساً هو قراراتنا الحرة، وعليه لا جدوى من حجج الارتباطات التي نعيشها، وليس علينا أن نقف ما بين طريقين، نتأرجح على الميلين، تارةً نكون مع الرب في طريقه وطريقته، وتارةً مع ما صنعته أيدينا. فأن نتبع يسوع يعني، أن نعي المسؤولية التي نحن مقدمون على الالتزام بها.

إنه لمن المهم جداً أن نفهم المهمة الحقيقية التي نحن، ككنيسة وجماعة مرسلة، مناطون بها، فنحن كنيسة تغيير وتجديد، وتقدم إلى الأمام في طريق الرب الذي هو أعده وقدمه لنا. ولا نستطيع أن نحيد عن رسالتنا ومهمتنا ودورنا الطبيعي في أن نكون امتداداً لخط الرب يسوع المسيح الذي رسمه بموته وقيامته.

أتبعك يا سيد، بقرارٍ حر وواعي، فاقبلني لأذهب معك إلى أورشليم، إلى موتك، فنقوم معاً ويقوم العالم بنا، آمين.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.