هل ترون حقيقتي؟ 

الأحد الخامس عشر بعد العنصرة 

عيد ارتفاع الصليب 


رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل تسالونيقي (2: 13-20، 3: 1-5) 

يا إخوَتِي، نَحْنُ أَيضًا نَشكُرُ اللهَ بغيرِ ٱنْقِطَاع، لأَنَّكُم لَمَّا تَلَقَّيْتُم كَلِمَةَ الله الَّتي سَمِعْتُمُوهَا مِنَّا، قَبِلْتُمُوهَا لا بِأَنَّهَا كَلِمَةُ بَشَر، بَلْ بِأَنَّهَا حَقًّا كَلِمَةُ الله. وإِنَّهَا لَفَاعِلَةٌ فيكُم، أَيُّهَا المُؤْمِنُون.

فأَنْتُم، أَيُّهَا الإِخْوَة، قَدِ ٱقْتَدَيْتُم بِكَنَائِسِ اللهِ في المَسِيحِ يَسُوع، الَّتي هِيَ في اليَهُودِيَّة، لأَنَّكُمُ ٱحْتَمَلْتُم أَنْتُم أَيْضًا مِنْ بَنِي أُمَّتِكُم، ما ٱحْتَمَلُوهُ هُم مِنَ اليَهُود،

الَّذِينَ قَتَلُوا الرَّبَّ يَسُوع، والأَنْبِيَاء، وٱضْطَهَدُونَا نَحْنُ أَيْضًا، وهُم لا يُرْضُونَ الله، ويُعادُونَ كُلَّ النَّاس،

ويَمْنَعُونَنَا مِنْ أَنْ نُكَلِّمَ الأُمَمَ فَيَنَالُوا الخَلاص، وبِذلِكَ يُطَفِّحُونَ على الدَّوامِ كَيْلَ آثَامِهِم. لَقَدْ حَلَّ الغَضَبُ عَلَيْهِم إِلى النِّهَايَة.

أَمَّا نَحْنُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، فَمَا إِنْ تَيَتَّمْنَا مِنْكُم مُدَّةَ سَاعَة، بِالوَجْهِ لا بِالقَلْب، حَتَّى بَذَلْنَا جَهْدًا شَدِيدًا، وَبِشَوقٍ كَبير، لِنَرى وَجْهَكُم.

لِذلِكَ أَرَدْنَا أَنْ نَأْتِيَ إِلَيكُم، أَنَا بُولُسَ على الأَخَصّ، مرَّةً وَٱثْنَتَيْن، ولكِنْ عَاقَنَا الشَّيْطَان.

فَمَا هوَ رَجَاؤُنَا أَو فَرَحُنَا أَو إِكْليلُ فَخْرِنَا، في حَضْرَةِ رَبِّنَا يَسُوع، عِنْدَ مَجِيئِهِ، أَفَلَسْتُم أَنْتُم أَيْضًا؟

بَلَى! أَنْتُم مَجْدُنَا وفَخْرُنَا.

لِذلِكَ، لَمَّا لَمْ نَعُدْ نُطِيقُ ٱلٱنْتِظَار، إِرْتَضَيْنَا أَنْ نَبْقى وَحْدَنَا في أَثينَا،

وأَرْسَلْنَا إِلَيْكُم طِيمُوتَاوُس، أَخانَا، ومُعَاوِنَ اللهِ في إِنْجِيلِ الْمَسِيح، لِيُثَبِّتَكُم في إِيْمَانِكُم ويَعِظَكُم،

فلا يَتَزَعْزَعَ أَحَدٌ في هذِهِ الضِّيقَات، وأَنْتُم أَنْفُسُكُم تَعْلَمُونَ أَنَّنَا جُعِلْنَا لِذلِكَ.

ولَمَّا كُنَّا عِنْدَكُم، كُنَّا نُنْبِئُكُم أَنَّنَا سَنُعَاني الضِّيقات، وهذَا مَا حَدَث، كَمَا تَعْلَمُون.

لِذلِكَ، أَنا أَيضًا، إِذْ لَمْ أَعُدْ أُطِيقُ ٱلٱنْتِظَار، أَرْسَلْتُ أَسْتَخْبِرُ عَنْ إِيْمَانِكُم، لِئَلاَّ يَكُونَ المُجَرِّبُ قَدْ جَرَّبَكُم، ويَذْهَبَ تَعَبُنَا بَاطِلاً.

إنجيل القدّيس لوقا (11: 33-41)

قالَ الربُّ يَسوعُ: «لا أَحَدَ يَشْعَلُ سِرَاجًا، وَيَضَعُهُ في مَكانٍ مَخْفِيّ، وَلا تَحْتَ المِكْيَال، بَلْ عَلَى المنَارَة، لِيَرَى الدَّاخِلُونَ النُّور.

سِرَاجُ الجَسَدِ هُوَ العَين. عِنْدَمَا تَكُونُ عَيْنُكَ سَلِيمَة، يَكُونُ جَسَدُكَ أَيْضًا كُلُّهُ نَيِّرًا. وَإِنْ كَانَتْ سَقِيمَة، فَجَسَدُكَ أَيْضًا يَكُونُ مُظْلِمًا.

تَنَبَّهْ إِذًا لِئَلاَّ يَكُونَ النُّورُ الَّذي فِيكَ ظَلامًا.

إِذاً، إِنْ كانَ جَسَدُكَ كَلُّهُ نَيِّرًا، وَلَيْسَ فِيهِ جِزْءٌ مُظْلِم، يِكُونُ كُلُّهُ نَيِّرًا، كَمَا لَوْ أَنَّ السِّراجَ بِضَوئِهِ يُنيرُ لَكَ».

وَفيمَا هُوَ يَتَكَلَّم، سَأَلَهُ فَرِّيسيٌّ أَنْ يَتَغَدَّى عِنْدَهُ. فَدَخَلَ وَٱتَّكأ.

وَرَأَى الفَرِّيسِيُّ أَنَّ يَسُوعَ لَمْ يَغْتَسِلْ قَبْلَ الغَدَاء، فَتَعَجَّب.

فَقَالَ لَهُ الرَّبّ: «أَنْتُمُ الآن، أيُّها الفَرِّيسِيُّون، تُطَهِّرُونَ خَارِجَ الكَأْسِ وَالوِعَاء، ودَاخِلُكُم مَمْلُوءٌ نَهْبًا وَشَرًّا.

أَيُّها الجُهَّال، أَلَيْسَ الَّذي صَنَعَ الخَارِجَ قَدْ صَنَعَ الدَّاخِلَ أَيْضًا؟

أَلا تَصَدَّقُوا بِمَا في دَاخِلِ الكَأْسِ وَالوِعَاء، فَيَكُونَ لَكُم كُلُّ شَيءٍ طَاهِرًا.

الموعظة

في البداية علينا أن نضع نص إنجيل اليوم ضمن السياق العام الذي يتحدث فيه يسوع مع الفريسيين واليهود، الذين كانوا يطلبون منه دلائل على رسالته وآيات تُثبت هويته، وأيضاً اتهموه بأنه رئيس شياطين بما أنه أخرج شيطاناً وشفى أخرس. وبعودة سريعة على ما قبل هذا النص، نرى في (لوقا 11: 29-32) الآتي: 

"29 وَفِيمَا كَانَ الْجُمُوعُ مُزْدَحِمِينَ، ابْتَدَأَ يَقُولُ: «هذَا الْجِيلُ شِرِّيرٌ. يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةُ يُونَانَ النَّبِيِّ.30 لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ آيَةً لأَهْلِ نِينَوَى، كَذلِكَ يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ أَيْضًا لِهذَا الْجِيلِ.31 مَلِكَةُ التَّيْمَنِ سَتَقُومُ فِي الدِّينِ مَعَ رِجَالِ هذَا الْجِيلِ وَتَدِينُهُمْ، لأَنَّهَا أَتَتْ مِنْ أَقَاصِي الأَرْضِ لِتَسْمَعَ حِكْمَةَ سُلَيْمَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ سُلَيْمَانَ ههُنَا!32 رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ، لأَنَّهُمْ تَابُوا بِمُنَادَاةِ يُونَانَ، وَهُوَذَا أَعْظَمُ مِنْ يُونَانَ ههُنَا!".

وبكلام يسوع هذا، نرى كل تلك الذاكرة الآبائية، التي بها يُذكّر الشعب اليهودي، بالصور المُسبقة عن المسيح في العهد القديم، بحيث يعتبر أن الآية الوحيدة التي تدل عليه والتي يجب أن تُعطى، هي آية يونان النبي، وهنا يتحدث يسوع عن موته وقيامته. وعندما يستطرد يسوع كلامه بمثل السراج والعين، فهو كمن يطرح سؤالاً على كل من سمع آنذاك، وعلى كل من يسمع اليوم: هل ترون حقيقتي؟

السراج الذي لا يجب أن يوضع تحت المكيال ولا في الخفية بل على المنارة، هو يسوع بالذات. فيسوع لم يكرز بالخفية ولا بالزوايا بل نادى بملكوت الله في كل مكان وفي كل وقت، وأمر الرسل أن يذهبوا ليعلنوا بشارة الملكوت هذه لجميع الأمم، لا في الخفاء، فإنه لا فائدة من إعلان البشرى لأشخاص محددين، بل للجميع، أي أن كل إنسان هو مدعو ليُقبل إلى فرح الملكوت.

ونستطيع أيضاً أن نربط، من خلال التأمل، بين المنارة والصليب، فكما أن السراج يجب أن يوضع على المنارة ليرى الداخلون نوره، كذلك على يسوع أن يوضع على الصليب ليرى كل إنسان الخلاص. فهل نرى حقيقته؟

إن الصليب أصبح منارة البشرية، لكي لا يفقد الإنسان الرجاء، بل لكي لا يفقد الإنسان إنسانيته، لأن كل ما يجعل الإنسان إنساناً، هو موجود في الصليب، حيث أن الحبّ، حبّ الله للإنسان، تجلّى عليه، بأبهى صورة.

ها إن النور يتلألأ على الصليب، فهل لنا عيون لتُبصر؟ هنا نفهم كلام يسوع عن العين وكيف أنها سراج الجسد، فإن كانت العين سليمة أو بسيطة، استطاعت أن ترى حقيقة يسوع كما هي، وبالتالي تُضيء هذا الحقيقة كل الجسد، أي كل الإنسان، وعلى خلاف ذلك، لا تستطيع العين الشريرة أن ترى بوضوح هذه الحقيقة، لأن الداخل مملوءٌ بالشرور، وهذا كان حال الفريسيين الذين قال لهم يسوع اليوم: "أَنْتُمُ الآن، أيُّها الفَرِّيسِيُّون، تُطَهِّرُونَ خَارِجَ الكَأْسِ وَالوِعَاء، ودَاخِلُكُم مَمْلُوءٌ نَهْبًا وَشَرًّا"، وبهذا هم لا يستطيعون أن يروا بيسوع المخلص الآتي من الآب لخلاص الإنسان.

هل نحن اليوم غرباء عن حقيقة الرب يسوع المسيح؟ هل عيوننا تُبصير حقيقته؟ وهل نستنير بنوره، أم لدينا أنوار أُخرى؟ الخوف، كل الخوف أن يكون النور الذي فينا ظلاماً، وهذا ما شدّد عليه يسوع اليوم بكلامه حيث قال: "تَنَبَّهْ إِذًا لِئَلاَّ يَكُونَ النُّورُ الَّذي فِيكَ ظَلامًا".

إننا نستقبل بأعيننا كل شيء، لكن ليس كل شيء حقيقة، وهنا علينا بالحكمة، التي تجعلنا نميّز حقيقة الرب وحقيقتنا، فهناك أضواءٌ كثيرة تشدنا وتجذبنا، تُلهينا وتُبعدنا عن خلاصنا. يُحذرنا يسوع لكي ننتبه جيداً لكل ما تراه أعيننا، فليس كل ما يلمع ذهباً. لنكن حذرين إذاً فيما نعتبره مشرقًا وجذابًا. إذا لم يكن المسيح، فسوف نمتلئ بالظلمة - الشرور، بغض النظر عن مدى سطوعها لفترة. فإن الشموع تبدو ساطعة حتى تشرق الشمس، ثم تصبح عديمة الفائدة ويتم إبعادها. وبالطبع لا أحد لديه عقل صحيح وفي صحة جيدة يفضل الاستمرار في العيش على ضوء الشموع عندما تكون الشمس مشرقة في الخارج.

إن ظلمة هذا العالم، التي نعتبرها نوراً، قد أعمت أعيننا، فلم نعد نرى حقيقة الرب، أصبح غباؤنا معتق كالنبيذ، نرتشف منه ونتذوقه كالسكارى الهاربين من واقعهم، البعيدين عن حقيقتهم، نمشي هنا تارةً وهناك تارةً، نترنح على الجانبين، مثقلين بظلمات شرورنا، منتظرين من يأخذ بيدنا ويهدينا إلى طُرقنا. فهل نستفيق ونرى حقيقته، فنعود إلى حقيقتنا؟ عسى أن يكون الجواب: نعم.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.