رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (12: 1-11) يا إِخوتي : أَمَّا في شَأْنِ المَوَاهِبِ الرُّوحِيَّة، أَيُّهَا الإِخْوَة، فلا أُريدُ أَنْ تَكُونُوا جَاهِلِين. تَعْلَمُونَ أَنَّكُم، عِنْدَمَا كُنْتُم وَثَنِيِّين، كُنْتُم تَنْقَادُونَ مُنجَرِفِينَ إِلى الأَوْثَانِ البُكْم. لِذلِكَ أُعْلِنُ لَكُم أَنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ يَنْطِقُ بِرُوحِ الله، ويُمكِنُهُ أَنْ يَقُول: «يَسُوعُ مَحْرُوم!»؛ ولا أَحَدَ يَقْدِرُ أَنْ يَقُول: «يَسُوعُ رَبّ!» إِلاَّ بِالرُّوحِ القُدُس. إِنَّ المَوَاهِبَ الرُّوحِيَّةَ عَلى أَنْوَاع، لكِنَّ الرُّوحَ وَاحِد؛ والخِدَمَ عَلى أَنْوَاع، لكِنَّ الرَّبَّ وَاحِد؛ والأَعْمَالَ القَدِيرَةَ عَلى أَنْوَاع، لكِنَّ اللهَ وَاحِد، وهوَ يَعْمَلُ في الجَمِيعِ كُلَّ شَيء. وكُلُّ وَاحِدٍ يُعْطَى مَوْهِبَةً يَتَجَلَّى الرُّوحُ فيهَا مِنْ أَجْلِ الخَيْرِ العَام. فوَاحِدٌ يُعْطَى بِالرُّوحِ كَلاَم الحِكْمَة، وآخَرُ كَلاَمَ المَعْرِفَة، وَفْقًا لِلرُّوح عَيْنِهِ؛ وآخَرُ الإِيْمَانَ في الرُّوحِ عَيْنِهِ؛ وآخَرُ مَوَاهِبَ الشِّفَاءِ في الرُّوحِ الوَاحِد؛ وآخَرُ الأَعْمَالَ القَدِيرَة، وآخَرُ النُّبُوءَة، وآخَرُ تَمْييزَ الأَرْوَاح، وآخَرُ أَنْوَاعَ الأَلْسُن، وآخَرُ تَرْجَمَةَ الأَلْسُن. كُلُّ هذَا يَعْمَلُهُ الرُّوحُ الوَاحِدُ عَيْنُهُ، مُوَزِّعًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مَوَاهِبَهُ كَمَا يَشَاء. إنجيل القدّيس يوحنّا (16: 4-15) لكِنِّي كَلَّمْتُكُم بِهذَا، حَتَّى إِذَا حَانَتِ السَّاعَةُ تَتَذَكَّرُونَ أَنِّي قُلْتُهُ لَكُم. ولَمْ أَقُلْ لَكُم هذَا مُنْذُ البَدْءِ لأَنِّي كُنْتُ مَعَكُم. أَمَّا الآنَ فَأَنَا ذَاهِبٌ إِلى مَنْ أَرْسَلَنِي، ولا أَحَدَ مِنْكُم يَسْأَلُنِي: إِلى أَيْنَ أَنْتَ ذَاهِب؟ ولكِنْ لأَنِّي كَلَّمْتُكُم بِهذَا، مَلأَ الحُزْنُ قُلُوبَكُم. غَيْرَ أَنِّي أَقُولُ لَكُمُ الحَقّ: خَيْرٌ لَكُم أَنْ أَمْضِي. فَإِنْ لَمْ أَمْضِ لا يَأْتِ إِلَيْكُمُ البَرَقْليطُ المُعَزِّي. أَمَّا إِذَا ذَهَبْتُ فَإِنِّي سَأُرْسِلُهُ إِلَيْكُم. وهُوَ مَتَى جَاءَ يُوَبِّخُ العَالَمَ عَلى الخَطيئَةِ وفي أَمْرِ البِرِّ والدَّيْنُونَة. أَمَّا على الخَطيئَةِ فَلأَنَّهُم لا يُؤْمِنُونَ بِي. وأَمَّا في أَمْرِ البِرِّ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلى الآب، ولَنْ تَرَونِي مِنْ بَعْد. وأَمَّا في أَمْرِ الدَّيْنُونَةِ فَلأَنَّ سُلْطَانَ هذَا العَالَمِ قَدْ أُدِين. لَدَيَّ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ أَيْضًا أَقُولُهَا لَكُم، ولكِنَّكُم لا تَقْدِرُونَ الآنَ أَنْ تَحْتَمِلُوهَا. ومَتَى جَاءَ رُوحُ الحَقِّ فَهُوَ يَقُودُ خُطَاكُم في الحَقِّ كُلِّهِ، لأَنَّهُ لا يَتَكَلَّمُ بِشَيءٍ مِنْ عِنْدِهِ، بَلْ يَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا يَسْمَع، ويُنْبِئُكُم بِمَا سَيَأْتِي. وهُوَ سَوْفَ يُمَجِّدُنِي لأَنًّهُ سَيَأْخُذُ مِمَّا لي ويُنْبِئُكُم بِهِ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لي. لِهذَا قُلْتُ: إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لي ويُنْبِئُكُم بِهِ. الموعظة بعد طول غياب، بسبب وباء كورونا، والذي فرض على العالم الانزواء في المنزل، وعدم القدرة على لمس الآخرين، واللقاء بهم، نعود للاجتماع معاً في الكنيسة، في يوم أحد العنصرة، وهو العيد الذي يعني التجمع أو الجمهرة. وكأننا عدنا إلى زمن الرسل، فكما تعلمون، من قيامة الرب يسوع المسيح من بين الأموات إلى صعوده أربعين يوماً، وإلى العنصرة خمسين يوماً، وفي هذه الفترة عاش الرسل اختبار الانعزال والخوف، بسبب الاضطهاد من اليهود والرومان، وإذ تغيّر حالهم، عند حلول الروح القدس، طفقوا ينادون، دون خوف، بملكوت الله. وهناك اختبار الشعب القديم في التشرذم والانعزال، حيث تبلبلت الألسن في بابل بسبب خطيئة الإنسان، وها هنا في العنصرة يفهم الجميع على لغة بعضهم، فما حدث في اليوم الخمسين يشكل نوعاً من العودة إلى الآخر، وبمعنى أصح، صارت إمكانية اللقاء مع الآخر موجودة، فلا يمكن لنا أن نرتبط معاً بدون الله. لقد أعطى القديس يوحنا في إنجيله لقب البارقليط للروح القدس، وسماه "بارقليطاً آخر"، وهذا يعني أن يسوع كان البارقليط الأوّل، ونفهم بكلمة بارقليط: المعزّي أو المقوي والمدافع، ومن هنا نفهم أن دور الروح القدس في مسيرة التلاميذ ومن بعدهم الكنيسة، هو تكميل دور يسوع، وأكثر من ذلك، فهو الذي يضمن بقاء يسوع معهم إلى الأبد. يعلن يسوع أن في مصلحة تلاميذه أن يذهب هو، حتى يأتي البرقليط وإلا فلن يأتي (16: 7)، لأن الآب يعطي التلاميذ البارقليط على طلب يسوع وباسمه (14: 16و 26)؛ ولأن يسوع نفسه يرسله لهم من عند الآب (26:15؛ 16: 7)، فهذا الروح المرسل والآتي من عند الآب دوره أن يكون بدل يسوع مع التلاميذ وفي التلاميذ إلى الأبد (13: 16). وبما أن البارقليط يستطيع المجيء فقط عندما يذهب يسوع، فالبارقليط الآخر هو إذًا يسوع آخر، هو حضور يسوع عندما يكون يسوع غائبًا، هو خليفة يسوع يواصل رسالته مع التلاميذ وفيهم بعد عودة يسوع إلى الآب. إذًا فوعد يسوع أن يبقى مع التلاميذ إلى الأبد يتحقّق في البارقليط. وليس من الصدف أن أول نص يحتوي على وعد يسوع بإرسال البارقليط (14: 16-17)، تتبعه الآية 18 التي تقول: "لن أدعكم يتامى أنا إليكم آت". يسوع يأتي إلينا بحضور البارقليط معنا وفينا. يشدد يوحنا أن يسوع سيكون في السماء مع الآب بينما البارقليط سيكون على الأرض يواصل رسالة يسوع مع التلاميذ وفيهم إلى منتهى الدهر. كما كان يفعل يسوع هكذا الرسل سيفعلون، والمواهب التي كان يتمتع بها، سيتمتعون بها أيضاً، وسيحملون تأييداً من الروح القدس، الذي نستطيع أن نسميه "الحركة"، فهو الذي يُحركهم لينطلقوا إلى العالم، وهو الذي يدفعهم لينشروا الحب في قلوب الناس، وهو حركة الحب بينهم، كما أنه هو حركة الحب بين الآب والابن، وفيه تتم صلواتهم وأعمالهم كلها. تكلم القديس بولس في رسالته اليوم، عن مواهب الروح القدس، والتي هدفها الخير العام، فليس مهماً أن نتكلم بألسنة إن لم يكن ما نقوله يجعلنا أكثر صلة مع الآخر، ولا موهبة النبوّة إن لم يكن هدفها إعلان إرادة الله في العالم، فالمواهب التي تصحب المؤمنين ليست بدون هدف، وهي ليست لاستعراض القوى، بل هي للعمل ضمن إطار مهمة هذه الجماعة المؤمنة، وهي تعمل على جعل الخدمة أفضل، من أجل "الخير العام "، وهنا مكمن المشكلة، أي في تحديد الخير العام، فالعالم لا يعلم خيره، بل يسعى إلى تدمير ذاته، وهذا ما نراه إلى اليوم في عالمنا. "وهُوَ مَتَى جَاءَ يُوَبِّخُ العَالَمَ عَلى الخَطيئَةِ وفي أَمْرِ البِرِّ والدَّيْنُونَة"، بهذه الكلمات يحدّد يسوع عمل البارقليط المستقبلي بالنسبة للعالم، وبالفعل إن دعوى كبرى قد افتتحت بين يسوع والعالم، الذي رفض الإيمان به. اتّهم العالم يسوع بالجنون "إن بك إبليساً" (يو 8: 48)، وبالتجديف (10: 33). الكلّ يعلم أن العالم على أعلى مستوياته حكم على يسوع: السلطة المدنيّة باسم القيصر والسلطة الدينيّة بصوت كهنة الهيكل. لم يكن ليسوع أي مدافع. العالم ببراهينه واتّهاماته المزوّرة برهن أن يسوع مُذنب. الموت على الصليب هو برهان قاطع، حسب منطق العالم، أن الله كان ضدّه. فمن سيكون معه ومن سيدافع عنه؟ وهنا يأتي الجواب، فالروح القدس هو المدافع، لا اعتباطياً، بل إنه يُظهر الحقيقة للعالم، ويُظهر أيضاً، حقيقة العالم أنه خاطئ وهو بحاجة حقيقية إلى الخلاص الذي قام به الرب يسوع المسيح، فهو روح الحق. هذا العالم لا يستوعب مواهبنا، فإن كان العالم قد حكم على يسوع البار بالموت، فكيف يمكن لنا نحن اليوم أن ننجو؟ الروح القدس بإعلانه الحق يفضح شرور العالم، والعالم لا يحتمل أن تُفضح أعماله، وهذا ما قاد الكنيسة الأولى، ويقودنا نحن أيضاً اليوم إلى المواجهة معه، فالتحديات كبيرة وخطيرة، فإن كانت رسالة يسوع تُعنى بالدرجة الأولى، بتوفير الحياة الأفضل للإنسان، فالعالم لا يهمه على الإطلاق أن يكون الإنسان بخير، مع العلم أن هذا العالم ليس مجرداً ولا مطلقاً، وإنما يتكوّن من الإنسان، ولكن الإنسان الذي يسير وفق رغباته وشهواته وأطماعه، فالأنانية تحركه وهي مبدأه، لذلك هو عكس الله، الذي هو محبة. من هنا دور الروح القدس البارقليط، في تقوية وتعزية المؤمنين، ليقودهم دوماً ضمن رسالة يسوع المسيح، الذي بذل ذاته لأجل العالم نفسه الذي لم يفهمه ولم يستوعبه، فمنطق هذا العالم لا يتماشى مع منطق الحبّ الذي قدمه الله للإنسان، لذلك علينا نحن أبناء الكنيسة، والذين نُعنى بإكمال مسيرة يسوع في العالم، أن نسير حسب الروح القدس، ونترك روح العالم، وبذلك نُقدم خدمةً، لا لله وحسب، بل لأنفسنا، حيث أننا نكوّن هذا العالم بكل تفاصيله. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا. هذا العالم لا يستوعب مواهبنا
أحد العنصرة