أثوابنا البالية لم تعد تنفع 

الأحد الثالث بعد القيامة 

الرسالة إلى العبرانيّين (10: 1-14) 

يا إِخوَتِي، بِمَا أَنَّ الشَّرِيعَةَ تَحْتَوِي ظِلَّ الخَيْرَاتِ الآتِيَة، لا الحَقِيقَةَ ذَاتَهَا، فهِيَ لا تَقْدِرُ البَتَّةَ أَنْ تُبَلِّغَ إِلى الكَمَالِ أُولئِكَ الَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ مِنهَا، بِوَاسِطَةِ تِلْكَ الذَّبائِحِ نَفْسِهَا الَّتي تُقَدَّمُ كُلَّ سَنَةٍ على مَرِّ الدُّهُور.

وإِلاَّ، أَمَا كَانَ الَّذِينَ يُقَرِّبُونَ تِلْكَ الذَّبَائِحَ يَكُفُّونَ عَنْ تَقْدِيمِهَا، لَو أَنَّهُم تَطَهَّرُوا بِهَا مِنْ مَرَّةٍ واحِدَة، ولَمْ يَبْقَ في ضَمِيرِهِم أَيُّ شُعُورٍ بِالخَطِيئَة؟

ولكِنْ بِالعَكْس، فَإِنَّ في تِلْكَ الذَّبَائِحِ تَذْكِيرًا بِالخَطَايَا سَنَةً بَعْدَ سَنَة!

لأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ عَلى دَمِ الثِّيْرَانِ والتُّيُوسِ أَنْ يُزِيلَ الخَطَايَا.

لِذلِكَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ إِلى العَالَم: «ذَبِيحَةً وقُرْبَانًا لَمْ تَشَأْ، لكِنَّكَ أَعْدَدْتَ لِي جَسَدًا.

ولَمْ تَرْضَ بِالمُحْرَقَاتِ عَنِ الخَطِيئَة.

حِينَئِذٍ قُلْتُ: هَاءَنَذَا آتٍ لأَعْمَلَ بِمَشِيئَتِكَ يَا أَلله، كَمَا كُتِبَ عَنِّي في دَرْجِ الكِتَاب».

فَبِقَولِهِ أَوَّلاً: «ذَبائِحَ وقَرَابِينَ ومُحْرَقَاتٍ عنِ الخَطايَا لَمْ تَشَأْ ولَمْ تَرْضَ بِهَا»، مَعَ أَنَّ تَقْدِيمَهَا يَتِمُّ بِحَسَبِ الشَّرِيعَة،

ثُمَّ بِقَولِهِ بَعْدَ ذلِكَ: «هاءَنَذَا آتٍ لأَعْمَلَ بِمَشِيئَتِكَ»، فهُوَ يُلغِي القَوْلَ الأَوَّلَ لِيُثْبِتَ الثَّانِي.

فَنَحْنُ بِمَشِيئَةِ اللهِ هذِهِ مُقَدَّسُون، بِتَقْدِمَةِ جَسَدِ يَسُوعَ المَسِيحِ مَرَّةً واحِدَة.

فَكُلُّ كَاهِنٍ يَقِفُ كُلَّ يَومٍ خَادِمًا، ومُقَرِّبًا مِرَارًا الذَّبَائِحَ نَفْسَهَا، وهِيَ لا تَقْدِرُ البَتَّةَ أَنْ تُزِيلَ الخَطَايَا.

أَمَّا المَسِيح، فَبَعْدَ أَنْ قَرَّبَ ذَبِيحةً واحِدَةً عنِ الخَطَايَا، جَلَسَ عَن يَمِينِ اللهِ إِلى الأَبَد،

وهُوَ الآنَ يَنْتَظِرُ أَنْ «يُجْعَلَ أَعْدَاؤُهُ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْه».

فإِنَّهُ بِتَقْدِمَةٍ وَاحِدَةٍ جَعَلَ المُقَدَّسِينَ كَامِلِينَ إِلى الأَبَد.

إنجيل القدّيس مرقس (2: 13-22)

وعادَ يَسُوعُ وخَرَجَ إِلى شَاطِئِ البُحَيْرَة. وأَتَى إِلَيْهِ الجَمْعُ كُلُّهُ فَأَخَذَ يُعَلِّمُهُم.

وفِيمَا هُوَ مُجْتَازٌ، رَأَى لاوِي بنَ حَلْفَى جَالِسًا في دَارِ الجِبَايَة، فقَالَ لَهُ: «إِتْبَعْنِي». فقَامَ وتَبِعَهُ.

وَٱتَّكَأَ يَسُوعُ في بَيْتِ لاوِي، وكَانَ كَثيرُونَ مِنَ العَشَّارينَ والخَطأَةِ مُتَّكِئينَ مَعَ يَسُوعَ وتَلامِيذِهِ، لأَنَّ كَثيرينَ مِنْهُم كانُوا قَدْ تَبِعُوه.

فلَمَّا رَأَى الكَتَبَةُ والفَرِّيسِيُّونَ أَنَّهُ كانَ يَأْكُلُ مَعَ العَشَّارِينَ والخَطَأَة، قَالُوا لِتَلامِيذِهِ: «إِنَّهُ يَأْكُلُ مَعَ العَشَّارِينَ والخَطَأَة!».

وسَمِعَ يَسُوعُ فقالَ لَهُم: «لا يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلى طَبِيب، بَلِ الَّذِينَ بِهِم سُوء. ما جِئْتُ لأَدْعُوَ الأَبْرَارَ بَلِ الخَطَأَة».

وكانَ تَلاميذُ يُوحَنَّا والفَرِّيسِيُّونَ صَائِمِين. فجَاؤُوا وقَالُوا لِيَسُوع: «لِمَاذَا تَلامِيذُ يُوحَنَّا وتَلامِيذُ الفَرِّيسيِّينَ يَصُومُون، وتَلامِيذُكَ لا يَصُومُون؟».

فقالَ لَهُم يَسُوع: «هَلْ يَسْتَطيعُ بَنُو العُرْسِ أَنْ يَصُومُوا وَالعَريسُ مَعَهُم؟ ما دَامَ العَرِيسُ مَعَهُم لا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَصُومُوا.

ولكِنْ ستَأْتِي أَيَّامٌ يَكُونُ فيهَا العَريسُ قَدْ رُفِعَ مِنْ بَيْنِهِم، فحِينَئِذٍ في ذلِكَ اليَوْمِ يَصُومُون.

لا أَحَدَ يَضَعُ رُقْعَةً جَدِيدَةً في ثَوْبٍ بَالٍ، وإِلاَّ فَٱلجَدِيدُ يَأْخُذُ مِلأَهُ مِنَ البَالي، فيَصِيرُ الخِرْقُ أَسْوَأ.

ولا أَحَدَ يَضَعُ خَمْرَةً جَدِيدَةً في زِقَاقٍ عَتِيقَة، وإِلاَّ فَٱلْخَمْرَةُ تَشُقُّ الزِّقَاق، فَتُتْلَفُ الخَمْرَةُ والزِّقَاقُ مَعًا. بَلْ تُوضَعُ الخَمْرَةُ الجَدِيدَةُ في زِقَاقٍ جَدِيدَة».

الموعظة 

نص إنجيل اليوم يبدأ باجتماع يسوع مع الشعب عند البحر، الذي هو، بحسب الكتاب المقدس، مركز قوة الشر. وكأن القديس مرقس، يريد أن يقول، إن يسوع يقترب من قوى الشر ليمنع الضرر عن الشعب، فيقدم لهم الشفاء، وكلمة الله، التي تصونه.

ودعا يسوع في مسيرته هذه، لاوي بن حلفى، الذي على ما يبدو من تسميته (لاوي)، هو كاهن، ولكن انحطّ من مركزه الكهنوتي، وأصبح جابي ضرائب، وبما أنه يتعامل مع الرومان، صار محتقراً من الفريسيين وابتعدوا عنه، وأما يسوع فاقترب إليه ودعاه بقوله: "اتبعني"، فلبّى لاوي بن حلفى نداء يسوع، وترك كل شيء وتبعه.

غريب هو أمر يسوع، هذا المعلم الذي يحمل كلمة الله، فهو يتكئ مع العشارين والخطأة أكثر من أرباب الشرائع الدينية، ويبتعد عن الشعائر، وينتفض في وجهها، ويصرخ في وجه المعترضين من الفريسيين، معلناً هويته كطبيب و مخلّص: "لا يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلى طَبِيب، بَلِ الَّذِينَ بِهِم سُوء. ما جِئْتُ لأَدْعُوَ الأَبْرَارَ بَلِ الخَطَأَة".

يُقابَل عمل يسوع هذا بمحاولات مضادة لدعوته، فيُكلم معلمو الشريعة التلاميذ بدلاً منه، ربما ليَعدُلُوا عن اتباعه. ورغم ذلك يختار يسوع تلاميذه من بين الخطأة والعشارين. يأكل معهم في بيتهم ويدعوهم إلى بيته. "البيت" المذكور في النص في الآية 15 منه، يدل على الكنيسة التي تستقبل الخطأة كما تستقبل الأبرار، تستقبل المرضى كما تستقبل الأصحّاء. إنها على مثال الله الذي يشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويرسل غيثه على الصالحين والفجّار (مت 5: 45).

إنّ مكمن الخطر هو في ألّا نعتبر أنفسنا بحاجة إلى خلاص، ألّا نحتاج إلى يسوع، ظانين أن تَدَيّننا يكفي، وارتباطنا في واجبات الدين الطقسية يضمن لنا حياةً أفضل. من هنا عبّر يسوع عن قصده الإلهي، حيث أنّ ارتباطه بالبشرية لا يقتصر على ممارسة الطقوس، وإنما على حضوره في الإنسان، فكلامه على حضور العريس الذي يمنع أهل العرس من الصوم، يصبّ، في هذه الخانة. كلام يسوع عن ذاته على أنه العريس، يوضح أيضاً ماهية حضوره في حياة الإنسان، فهو العريس الذي يحبّ ويضحيّ بحياته من أجل عروسه، من أجل شعبه. وما هذا إلا ليُعلن أن الله محبة، وهذه المحبة تدفع الإنسان إلى الأمام، تجعله أيضاً، يأخذ خطوةً نحو الآخر، أي تصبح العلاقات الإنسانية متجذرة في المحبة. وهذا من شأنه أن يجعلنا نفكر من جديد في إعادة النظر في علاقتنا بالطقوس والأمور الدينية.

نقابل اليوم في حياتنا أناساً يبدو أنهم فريسيين أكثر من أولئك الذي كانوا على زمن يسوع، فيهتم هؤلاء بالطقوس والأزمنة أكثر مما يجب، لا بل على حساب المحبة الموصى بها من قبل الرب.

كل من يعتبر نفسه أصيلاً، أو مرجعاً، أو أنه يعطي لنفسه صفة الاستقامة، ويعتبر كل اختلاف عنه على أنه تحريف، أليس فريسياً؟ هكذا تعامل الفريسيون مع يسوع، وهكذا يتعامل اليوم الكثيرون، من أبناء الطوائف المسيحية، بعضهم مع بعض. 

يحاول البعض أن يُثبت للجميع أن انتماءه هو الانتماء الوحيد الصحيح، ويجب على الجميع العودة إلى الحضن الأصيل، فلهؤلاء أقول: إن الحضن الأصيل الوحيد والنهائي،  لا يكمن في طقوسكم وعاداتكم وتقاليدكم، بل هو حضن أصالة محبة الله.

أثوابنا البالية لم تعد تنفع، وترقيعها بخرقة جديدة يُتلفها أكثر، وزقاق خمرتنا العتيق لم يعد ينفع، فأين نضع خمرتنا الجديدة؟ لم يعد لها مكانٌ من كثرة العتائق الموجودة فينا،  الأمثلة كثيرة في الواقع، كلنا نعلمها و نتداولها يومياً في اجتماعاتنا وجماعاتنا، يكفي أن نذكر ما يحدث كل سنة في عيد القيامة، عندما يعتبر البعض أنهم الأصل في كل شيء، ويكفي أن نذكر تلك الهتافات والكلمات التي تعلن الهوية الشخصية لطائفة معينة ولكن عبر التنديد بالطائفة الأخرى، ولن أكون واضحاً وصريحاً هنا، لمنع خلق البلبلة، ولكن كلنا نعلم.

الثوب العتيق، الزقاق العتيقة تدل على النظم اليهودية التي حاول الفريسيون أن يجدّدوها، ولكن عبثاً. قال يسوع: صار الخرق أوسع. رفض يسوع الترقيع والتلزيق. وأحلّ محلّ القديم جديداً كل الجدّة. وقد لخّص يوحنا الإنجيلي هذا الجديد بما فيه من جذرية جاءت في المسيح فقال: "من ملئه نلنا جميعاً نعمة على نعمة. أعطيت الشريعة بموسى. وجاءتنا النعمة والحق بيسوع المسيح" (يو 1: 16-17).

فلنسمع نداء الرب الذي يقول لك واحد وواحدة منا: "اتبعني"، وعلى مثال لاوي القديس متى، نلبي الدعوة، ففي زمن القيامة، نحتفل بظهور ثمار الكلمة في العالم، فإن اعتبرنا زمن الصوم كان موتاً فإن زمن القيامة هو الإثمار، فكيف لا نجد أيضاً في مريم وفي شهر أيار كل المعنى لقيامة الرب؟ مريم هي ثمرة النضج المسيحي، التي بعد أن ماتت مع ابنها يسوع المسيح، قامت معه، كما أننا جميعاً، مدعوون لأن نموت ونحيا معه، له المجد إلى الأبد، آمين.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.