في هذه السنة يتزامن يوم أحد الشعانين مع يوم عيد البشارة، بشارة والدة الله مريم بالحبل بيسوع المسيح، ومن غير اللائق أن نتكلم عن حدث دون الآخر، وخاصة لما لهما من أهمية في تاريخ الخلاص البشري، فما عسانا أن نستشف من غنى العيدين وهل يوجد رابط ما بينهما؟ وكيف يمكن أن ندرك معنى العيدين في آن معاً؟. إن دققنا قليلاً في حياتنا، فلا بد من ملاحظة أن الدخول والخروج يشكلان محوراً أساسياً، فإننا ندخل الحياة ونخرج منها، ندخل المدرسة ونخرج منها، ندخل في مشكلة ما ونخرج منها، ندخل ربما في علاقة مع أحد ونخرج منها، ندخل ونخرج من المنزل، إلى ما هنالك. وإذا أمعنا التدقيق أكثر فإننا نجد أغلب القيم الإنسانية تدعونا إلى الخروج من الذات لبناء علاقة صحيحة مع آخر، وأيضاً الدخول إلى الذات لسبر أغوار شخصيتنا، وهناك أيضاً المعنى، فعلينا أن نخرج من المعنى الأولي والبسيط لندخل في المعنى الأعمق، وهكذا ... نعم أحبائي كل دخول يسبقه خروج. وكل خروج يعقبه دخول، وفي تعليمنا المسيحي الكثير والكثير من قصص الدخول والخروج، ونحن نعلم أن في العهد القديم سفراً كاملاً اسمه سفر الخروج والذي يتحدث عن الفصح وكيف خرج موسى بشعب الله من أرض العبودية إلى أرض الحرية، وكان المغزى الأخير لهذا السفر، والتي ستتوالى جميع الأحداث بعده بسببه، هو الدخول إلى أرض الحرية، والتي نسميها أورشليم، وهي أي أورشليم، تدل فيما تدل عليه، على الدخول في العلاقة بين الإنسان والله، وكأن الهدف العميق جداً في حياة الإنسان لا يتحقق إلا من خلال سكناه في الله (أورشليمه)، وسكنى الله فيه (أورشليمه)، بمعنى آخر، كأننا نقول أن أورشليم ليست فقط مدينة، وإنما حالة، تسمى هذه الحالة تارة الله وتارةً أخرى الإنسان، فكلاهما أورشليم. لقد اتخذت أمنا مريم العذراء هذا اللقب، فلم يعد الله يسكن في جدران هيكل أورشليم ولكن في هيكل مريم، أورشليم الجديدة. وأستطيع أن أجزم أن حضور الله الكلي في الإنسان يبقى هو الأساس في كل دين، فلا يريد الله بيوتاً مشيدة من حجارة، بل يريد السكنى في قلب حياة الإنسان، ولذلك نجد في تعليمنا أن الله أرسل جبرائيل ليقول للعذراء أن الروح يحلّ عليها وقوة العليّ تظللها والمولود منها قدوس هو وابن العلي يُدعى. وهكذا نرى خروج الله من ذاته ودخوله في حياة مريم (الإنسان). وبالمقابل كان على مريم الخروج من ذاتها لتدخل في حياة الله، وهذا ما نراه حين قالت: "نعم، ها أنا أمةٌ للرب". إن تجمع شعب الله في مكان واحد يتطلب من كل فرد الخروج من منزله والدخول إلى الهيكل، ولعل تلك الحالة تعبّر عن خروج الإنسان من ذاته للدخول في علاقة صحيحة مع الله ومع إخوته، ومع مرور الوقت أصبحت هذه الحالة عادة من العادات الدينية، ويذكر الكتاب المقدس كيف أن مريم ويوسف قاما بادخال يسوع إلى الهيكل، وأيضاً كيف كان يسوع يذهب كل سنة في العيد إلى أورشليم ويدخل الهيكل. وكالعادة، يسوع ذاهب إلى أورشيلم، وفي طريقه مرّ على بيت عنيا ملبياً نداء أختا لعازر الذي مات، وحصل أن أقام يسوع لعازر من القبر، ويذكر نص هذا الحدث أن يسوع قال للميت: " لعازر .. هلمَّ خارجاً "، بعد أن دخل الموت والقبر. وكان وقع حدث إقامة لعازر قوياً جداً على كل الجمع، وكل من أتى إلى العيد سمع به، فأرادوا أن يحتفلوا بدخول يسوع المسيح إلى أورشليم. كل الشعب كان ينتظر المسيح (المسيا)، وقد رأى في يسوع ذاك المنتظر، إنه يُحقق نبؤات جمة، ويُحقق بذات الوقت مُلْك إسرائيل، لذلك بدأوا يهتفون أوشعنا، والتي تعني: " يا رب خلّص "، أوشعنا لابن داود، مبارك الملك الآتي باسم الرب، وحملوا أغصان الزيتون وسعف النخل ابتهاجاً وعلامة على أن كل إنسان هو كالغصن الذي ينتمي إلى الشجرة، إلى الأصل الواحد، فقد أصبح يسوع موحِداً للجموع. وبالفعل دخل يسوع أورشليم ودخل الهيكل وقام بإخراج الباعة وقلب موائد الصيارفة، وقطع على الفريسيين وأحبار بني إسرائيل باب رزقهم، وكان هذا سبباً من أسباب إخراج يسوع من أورشليم حاملاً صليبه ليصلب خارج أسوار المدينة المقدسة. نحن نؤمن بأن دخول يسوع إلى هيكل أورشليم الحجري وطرد الباعة ما هو إلا علامةً لدخول أعظم وخروج أبهج، تلك هي مسيرة الفصح في أحد الشعانين وعيد البشارة، فصح الله إلى الإنسان وفصح الإنسان إلى الله، ففي كل حدث من أحداث الكتاب المقدس نرى هذا المعنى. فهنا نراه في بشارة العذراء مريم وهو فصح الله إلى الإنسان، ونراه أيضاً في دخول يسوع إلى أورشليم وخروجه منها وهو فصح الإنسان إلى الله. وبين هذا الفصحين يتم اللقاء، ويتحقق ملكوت الله والإنسان. هناك العديد من المعاني والعبر التي يمكن أن نتحدث عنها، لكني أحببت أن أشارك في هذه الموعظة بعضاً منها، عسى أن تكون تلك الكلمات ملهمة لكل من يقرأ ليبدأ مسيرة الخروج من الذات ليدخل في العلاقة مع الله والآخر، ليبدأ فصحه الشخصي نحو الله والآخر. في النهاية أدعوكم لقراءة هذه النصوص الكتابية التي نجد فيها حدث بشارة العذراء مريم وحدث دخول المسيح إلى أورشليم. حدث البشارة: من إنجيل القديس لوقا (1: 24 - 38) حدث دخول المسيح إلى أورشليم: رسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة (11: 13-26) و إنجيل القدّيس يوحنّا (12:12-22). وكل عيد وأنتم بخير. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.أحد الشعانين و عيد البشارة 25-03-2018