ثقافة الإلهاء والتغييب 

الأحد الثاني عشر بعد العنصرة 


رسالة القدّيس بولس إلى أهل أفسس (2: 19 - 22، 3: 1 - 5) 
إِذًا فَلَسْتُم بَعْدُ غُرَبَاءَ ولا نُزَلاء، بَلْ أَنْتُم أَهْلُ مَدِينَةِ القِدِّيسِينَ وأَهْلُ بَيْتِ الله،
بُنِيتُمْ على أَسَاسِ الرُّسُلِ والأَنْبِيَاء، والمَسِيحُ يَسُوعُ نَفْسُهُ هُوَ حَجَرُ الزَّاوِيَة.
فيهِ يَتَمَاسَكُ البِنَاءُ كُلُّه، فَيَرْتَفِعُ هَيْكَلاً مُقَدَّسًا في الرَّبّ،
وفيهِ أَنْتُم أَيْضًا تُبْنَونَ معًا مَسْكِنًا للهِ في الرُّوح.
لِذلِكَ أَنَا بُولُس، أَسِيرَ المَسيحِ يَسُوعَ مِنْ أَجْلِكُم، أَيُّهَا الأُمَم...
إِنْ كُنْتُم قَدْ سَمِعْتُم بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي مِنْ أَجْلِكُم،
وهوَ أَنِّي بِوَحْيٍ أُطْلِعْتُ على السِرّ، كَمَا كَتَبْتُ إِلَيكُم بإِيْجَازٍ مِنْ قَبْل،
حِينَئِذٍ يُمْكِنُكُم، إِذَا قَرَأْتُمْ ذلِكَ، أَنْ تُدْرِكُوا فَهْمِي لِسِرِّ المَسِيح،
هذَا السِّرِّ الَّذي لَمْ يُعْرَفْ عِنْدَ بَنِي البَشَرِ في الأَجْيَالِ الغَابِرَة، كَمَا أُعْلِنَ الآنَ بِالرُّوحِ لِرُسُلِهِ القِدِّيسِينَ والأَنْبِيَاء،

إنجيل القدّيس لوقا (14: 16 - 24 )
قَالَ الرَبُّ يَسُوعُ: «رَجُلٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا، وَدَعَا كَثِيرين.
وسَاعَةَ العَشَاء، أَرْسَلَ عَبْدَهُ يَقُولُ لِلْمَدعُوِّين: تَعَالَوا، فَكُلُّ شَيءٍ مُهيَّأ!
فَبَدَأَ الجَمِيعُ يَعْتَذِرُونَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَة. قَالَ لَهُ الأَوَّل: إِشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَذْهَبَ لأَرَاه. أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْذِرَنِي!
وقَالَ آخَر: إِشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ فَدَادِين، وَأَنَا ذَاهِبٌ لأُجَرِّبَها. أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْذِرَني!
وَقالَ آخَر: تَزَوَّجْتُ ٱمْرَأَةً، وَلِذلِكَ لا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيء.
وَعادَ العَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذلِكَ. فَغَضِبَ رَبُّ البَيْتِ وقَالَ لِعَبْدِهِ: أُخْرُجْ سَرِيعًا إِلى سَاحَاتِ المَدِينَةِ وَشَوارِعِها، وَأْتِ إِلى هُنَا بِالمَسَاكِينِ وَالمُقْعَدِينَ وَالعُرْجِ وَالعُمْيَان.
فَقالَ العَبْد: يَا سَيِّد، لَقَدْ نُفِّذَ مَا أَمَرْتَ بِه، وَبَقِي أَيْضًا مَكَان.
فَقَالَ السَيِّدُ لِلعَبْد: أُخْرُجْ إِلى الطُّرُقِ والسِّيَاجَات، وَأَجْبِرِ النَّاسَ عَلَى الدُّخُول، حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي.
فإِنِّي أَقُولُ لَكُم: لَنْ يَذُوقَ عَشَائِي أَحَدٌ مِنْ أُولئِكَ المَدْعُوِّين!».

الموعظة

في زمن العنصرة تتوجه القراءات والتعاليم الكنسية نحو تكوين الجماعة البشرية المؤمنة بالله والتي تسير معاً نحو الهدف الأسمى الذي هو الله، فالدعوة الأساسية لهذه العنصرة هي تجمّع شعب الله، وعلى ما يبدو، إن هذا التجمع بحد ذاته، هو هوية الكنيسة، أي دعوتها، وهذا ما يظهر في الإنجيل عامة، وفي إنجيل اليوم خاصة.

إنجيل اليوم يتكلم عن مثل المدعوين إلى الوليمة، وهو يأتي ضمن سياق وجود يسوع في بيت أحد الفريسيين الذي دعاه إلى بيته، وقد رأينا في إنجيل الأحد الماضي، كيف أنّ يسوع تكلم عن المقعد الأخير منبهاً على أهمية التواضع وأيضاً كيف توجه يسوع إلى صاحب الدعوة في كلامه، ليعرض تعليماً يختص بدعوة "المَسَاكِين، وَالمُقْعَدِين، والعُرْج، وَالعُمْيَان" الذين ليس لهم ما يكافئونه به.

لقد تكلمنا كثيراً عن نص إنجيل اليوم، ومن زوايا مختلفة، إلّا أننا نستطيع أن نتكلم دوماً وبدون انقطاع عن هذا النص، لِما فيه من غنى. 

هل تعتقد أنّ اللحظات القادمة، بعد قراءتك لهذه العظة، ستُغيّر حياتك؟ ربما نعم، وربما لا. والأمر لا يعود إلى عظمة الكلمات وعمقها، بل إلى الاستعداد للتغيير عندك.

إذا سألت، "ما الذي تود أن تراه يتغيّر في حياتك؟" يمكن لمعظمكم أن يعطيني شيئين أو ثلاثة. فالبعض يريد تغيير العالم، والبعض الآخر يود تغيير تسريحة شعره، والآخر وظيفته، والآخر وضعه المالي، إلى ما هنالك، والمشكلة ليست في التغيير بحد ذاته، لكن كل المشكلة تكمن في كيفية حدوث هذا التغيير، فكلنا نعتقد أن التغيير لا يبدأ معنا ولا من خلالنا، ولطالما اعتمدنا على أحد أو على قوة خارجة عنا، لتفعل هذا التغيير المطلوب في حياتنا.

من البديهي ألّا نُغيّر ما هو جيد في حياتنا، فدائماً الحاجة إلى التغيير تنبع من شيءٍ سيء، أو من أمرٍ مُتعب، والتغيير لمجرد التغيير ليس له معنى، إن لم يكن الهدف الأساسي يطال حياةً أفضل لنا. والخيار يبقى في تحديد ما هو أفضل.

إن تغيير الحياة الهادف، أي الذي له معنى حقيقي يطال حقيقتي كإنسان، يأتي من الله. عندما قلت أن كل واحد منا يمكنه أن يأتي بشيء أو شيئين نرغب في تغييرهما ، فإن الحقيقة هي أن الأشياء التي نقولها اليوم ستكون مختلفة غدًا ، لأننا حقًا لا نعرف ما هي التغييرات الأفضل. والمصادر التي نعتمد عليها في التغيير، غالباً ما تكون متقلبة وعابرة. لهذا السبب يجب أن نفهم أن التغيير الهادف للحياة يأتي من الله، فلا أعتقد أن هناك مصدراً حقيقياً نستطيع أن نعتمد عليه في مسيرة حياتنا، غير الله.

الدعوة هذه، التي تحدث عنها إنجيل اليوم، هي أمراً، يجب على المرء، أن يتشرف بتلقيه، لكن لأن المدعوين لم يُقدّروا قيمتها، فقد اختلقوا الأعذار بسهولة. والذرائع المستخدمة هي: حقل، وخمسة أزواج بقر، وزواج.

إنّ قبول هذه الدعوة لا يعني أنه لا يمكن للمرء أن ينظر إلى حقله لاحقًا (على الرغم من أنني لا أعرف لماذا اشتراها دون رؤيتها أولاً) ؛ ولا يعني ذلك أنّ المعتذر الآخر، لم يتمكن من تجربة أبقاره في يوم آخر ؛ وهذا لا يعني أن المعتذر الآخر أيضاً، لم يستطع إحضار زوجته معه! فبينما تعني دعوة الله أنه علينا تنحية بعض الأشياء جانبًا، أيضاً علينا أن ننظر إلى حضور الله في تفاصيل حياتنا، فلا يغيب عن أُفُقِنا.

بولس الرسول في رسالته اليوم إلى أهل أفسس يقول: "إِنْ كُنْتُم قَدْ سَمِعْتُم بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي مِنْ أَجْلِكُم" يعتبر أن التغيير الذي حدث له على يد الله، هدفه هو الناس، لكي يُعلن لكل إنسان ما هو تدبير الله له. وهذا ما يعني أن يكون للتغيير هدف.

لا شيء على الإطلاق يمنعنا من تلبية دعوة الله لنا، لا يجب أن ندع شيئاً يُغربنا عن حقيقتنا. إنْ نظرنا إلى عالم اليوم، نرى أن ثقافة الإلهاء والتغييب معتمة على المجتمعات، فالعالم يعيش بآمال كاذبة، ظاناً أنه يسعى إلى الأفضل، وثقافة الإلهاء هذه قائمة على نوعية الخيارات التي نأخذها في حياتنا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تقوم على عدم الوعي الكافي لحقيقتنا. 

بينما تغيّبَ المعنيون بالدعوة بعدم تلبيتها بسبب أعذارهم الواهية، حسب المثل الإنجيلي، نرى أن الدعوة توجهت إلى أشخاص هم بالأصل غائبون، لكنهم بحاجة أكيدة إلى تغيير نمط حياتهم: "أُخْرُجْ سَرِيعًا إِلى سَاحَاتِ المَدِينَةِ وَشَوارِعِها، وَأْتِ إِلى هُنَا بِالمَسَاكِينِ وَالمُقْعَدِينَ وَالعُرْجِ وَالعُمْيَان"، ووجه أيضاً صاحب الدعوة عبده ليدعو الغرباء: "أُخْرُجْ إِلى الطُّرُقِ والسِّيَاجَات، وَأَجْبِرِ النَّاسَ عَلَى الدُّخُول، حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي"، وما يجمع بينهم جميعاً هو أنهم غيّاب عن مواعيد الله، لكنهم لن يكونوا كذلك بعد اليوم.

وبالحديث عن الكنيسة، جماعة المؤمنين، نرى أنها تنتمي إلى عالم الغيّاب هذا، حيث أنها تعيش بخلاف حقيقتها، فهل نقبل بأن يضيع هدف الكنيسة لمجرد أنّ ظروف الحياة لم تعد تسمح لنا بأن نأخذ الخيارات المناسبة؟

الكنيسة هي كل واحد وواحدة منا، إنها نحن البشر الذين آمنوا بالله بابنه يسوع المسيح، الذين يجمعهم ويقودهم الروح القدس في وحدة قائمة على المحبة، هدفها إخبار العالم بدعوة الله له، لحياة أفضل، وهنا لا مجال للاستسلام أمام التحديات الداخلية والخارجية التي تُقوّض عمل الكنيسة وأبنائها. فنحن اليوم مدعوون لإطلاق ما يُسمى بـ: "اللاءات" وما أكثر هذه اللاءات التي يجب أن نقولها في عالمنا، لكي نحافظ على النَعَمْ لله.

لا لكل ما يمنعنا عن تلبية دعوة الله لنا، هذا يفتح المجال أمامنا لنفهم بما نحن مرتبطون و منشغلون (ثقافة الإلهاء والتغييب). ولا لكل ما يجعلنا نغيب عن حقيقتنا، وهذا ما يفتح المجال أمامنا أيضاً، لنفهم مَن نحن في عيني الله.

وأمام الوضع الذي نعيشه جراء وباء كورونا، تغيبنا عن لقاءاتنا كجماعة واحدة، لكنّ لا ندع الله يغيب عن أُفق حياتنا، ونستطيع أن نتغيّر حسب هدف الله ونحن في بيوتنا، بحيث نُحوّل أنفسنا إلى مقر حضوره في وسطنا، ونستمد منه معنى حياتنا الحقيقية.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.