رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس (5: 1-10) ونَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا هُدِمَ بَيْتُنَا الأَرْضِيّ، أَيْ جَسَدُنَا الَّذي هُوَ أَشْبَهُ بِالخَيْمَة، فَلَنَا مَسْكِنٌ مِنَ ٱلله، بَيْتٌ لَمْ تَصْنَعْهُ الأَيْدِي، أَبَدِيٌّ في السَّمَاوَات. ومَا دُمْنَا في هذِهِ الحَال، فَنَحْنُ نَئِنُّ مُتَشَوِّقِينَ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَ بَيْتِنَا الأَرْضِيِّ بَيْتَنَا الَّذي مِنَ السَّمَاء؛ هذَا إِنْ وُجِدْنَا يَوْمَذَاكَ لابِسِينَ الجَسَدَ لا عُرَاة! وطَالَمَا نَحْنُ في هذِهِ الخَيْمَة، فَنَحْنُ نَئِنُّ مُرْهَقِين، لأَنَّنَا لا نُرِيدُ أَنْ نَقْلَعَهَا بَلْ أَنْ نَلْبَسَ فَوْقَهَا، حَتَّى تَبْتَلِعَ الحَيَاةُ مَا هُوَ مَائِتٌ فِينَا. وٱللهُ هُوَ الَّذي أَعَدَّنَا لِذلِكَ، وأَعْطَانَا عُرْبُونَ الرُّوح. لِذلِكَ نَحْنُ وَاثِقُونَ دَائِمًا، وعَالِمُونَ أَنَّنَا مَا دُمْنَا مُقِيمِينَ في الجَسَد، نَبْقَى مُغْتَرِبِينَ عنِ الرَّبّ، لأَنَّنَا نَسْلُكُ بِالإِيْمَانِ لا بِالعِيَان. لكِنَّنَا نَثِقُ وَنُفَضِّلُ أَنْ نَغْتَرِبَ عَنْ هذَا الجَسَد، لِنُقِيمَ مَعَ الرَّبّ. فَلِذلِكَ نَحْنُ حَرِيصُونَ أَنْ نُرْضِيَ الرَّبّ، سَواءً كُنَّا مُقِيمِينَ أَوْ مُغْتَرِبِين؛ لأَنَّنَا لا بُدَّ أَنْ نَظْهَرَ جَمِيعًا أَمَامَ مِنْبَرِ المَسِيح، لِيَنَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا جَزَاءَ مَا عَمِلَهُ وهُوَ بَعْدُ في الجَسَد، خَيْرًا كَانَ أَمْ شَرًّا. إنجيل القدّيس متّى (25: 14-30) قالَ الربُّ يَسوع: «يُشْبِهُ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ رَجُلاً أَرَادَ السَّفَر، فَدَعَا عَبِيدَهُ، وسَلَّمَهُم أَمْوَالَهُ. فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَات، وآخَرَ وَزْنَتَين، وآخَرَ وَزْنَةً وَاحِدَة، كُلاًّ عَلى قَدْرِ طَاقَتِهِ، وسَافَر. وفي الحَالِ مَضَى الَّذي أَخَذَ الوَزَنَاتِ الخَمْس، وتَاجَرَ بِهَا فَرَبِحَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخْرَى. وكَذلِكَ الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَينِ رَبِحَ وَزْنَتَينِ أُخْرَيَين. أَمَّا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَةَ الوَاحِدَةَ فَمَضَى وحَفَرَ في الأَرْض، وأَخْفَى فِضَّةَ سَيِّدِهِ. وبَعْدَ زَمَانٍ طَويل، عَادَ سَيِّدُ أُولئِكَ العَبِيد، وحَاسَبَهُم. ودَنَا الَّذي أَخَذَ الوَزَنَاتِ الخَمْس، فَقَدَّمَ خَمْسَ وَزَنَاتٍ أُخْرَى قَائِلاً: يَا سَيِّد، سَلَّمْتَنِي خَمْسَ وَزَنَات، وهذِهِ خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخْرَى قَدْ رَبِحْتُهَا! قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: يَا لَكَ عَبْدًا صَالِحًا وأَمِينًا! كُنْتَ أَمِينًا على القَليل، سَأُقِيمُكَ على الكَثِير: أُدْخْلْ إِلى فَرَحِ سَيِّدِكَ! ودَنَا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَينِ فَقَال: يَا سَيِّد، سَلَّمْتَنِي وَزْنَتَين، وهَاتَانِ وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ قَدْ رَبِحْتُهُمَا. قَال لَهُ سَيِّدُهُ: يَا لَكَ عَبْدًا صَالِحًا وأَمينًا! كُنْتَ أَمينًا على القَليل، سَأُقِيْمُكَ على الكَثِير: أُدْخُلْ إِلى فَرَحِ سَيِّدِكَ! ثُمَّ دَنَا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَةَ الوَاحِدَةَ وقَال: يَا سَيِّد، عَرَفْتُكَ رَجُلاً قَاسِيًا، تَحْصُدُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَزْرَع، وتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُر. فَخِفْتُ وذَهَبْتُ وأَخْفَيْتُ وَزْنتَكَ في الأَرض، فَهَا هُوَ مَا لَكَ! فَأَجَابَ سَيِّدُهُ وقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدًا شِرِّيرًا كَسْلان، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَزْرَع، وأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُر، فَكَانَ عَلَيْكَ أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عَلى طَاوِلَةِ الصَّيَارِفَة، حَتَّى إِذَا عُدْتُ، ٱسْتَرْجَعْتُ مَا لِي مَعَ فَائِدَتِهِ. فَخُذُوا مِنْهُ الوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِمَنْ لَهُ الوَزَنَاتُ العَشْر. فَكُلُّ مَنْ لَهُ يُعْطَى ويُزَاد، ومَنْ لَيْسَ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ حَتَّى مَا هُوَ لَهُ. وهذَا العَبْدُ الَّذي لا نَفْعَ مِنْهُ أَخْرِجُوهُ وأَلْقُوهُ في الظُّلْمَةِ البَرَّانِيَّة. هُنَاكَ يَكُونُ البُكَاءُ وصَرِيفُ الأَسْنَان. الموعظة هذا الأحد يُسمى أحد الكهنة، وهو، بحسب طقس الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، أحد تذكار الكهنة المتوفين. وقد اعتادت الكنيسة أن تقرأ مثل الوزنات في مثل هذا اليوم، وأيضاً في صلاة جناز الكهنة والأحبار، على أساس أنّ مفهوم هذا المثل ينطبق على الكهنة الأمينين الذين تاجروا بوَزَناتهم ومواهبهم وربحوا، فكانوا أُمناء على القليل وأقامهم السيد على الكثير، ولذلك سيدخلون فرح سيدهم. في الحقيقة، علينا أن نفهم أنه ولو أنّ الكنيسة تضع هذا المثل في أحد الكهنة المتوفين، إلا أنه لا يخص الكهنة وحدهم، بل كل معمّد، لأن كل إنسان مسيحي، هو كاهن مشارك بكهنوت يسوع المسيح الكاهن الأعظم. وعليه يجب أن نفهم المثل انطلاقاً، لا من زاوية الكهنة فقط، بل من زاوية كل إنسان. نحن نربط حياتنا بالله بطريقة غريبة..! فمنه كل شيء وله أيضاً كل شيء، فكل عطية أو موهبة أو إمكانية هي منه، وكل ما أعطانا الله إياه، أعطاه حسب قدرتنا وإمكاناتنا، وفي النهاية سوف يُحاسِبُنا عليها، فمن يربح يدخل الملكوت ومن يخسر يُرمى في الظلمة البرانية. هذا التفكير عقيم جداً، ولا يأخذنا إلّا إلى طريق مسدود. الطريق مسدود في هذه الفكرة، لأن الله لا يُحاسب، بل هو في جوهره مُخلّص. وإن سلمّنا جدلاً أنه هو من يُحاسبنا، فجدير بنا أن نسأله لماذا أعطيتنا بالأصل شيئاً سوف تُحاسبنا عليه فيما بعد؟ وطبعاً هنا مفهوم العطية عند الله يجب أن يكون مجاني ودون شروط، لذلك لا يُعطينا الله الموهبة ليُحاسِبَنا فيما بعد، كأنه يقول لنا خُذ هذه واعمل بها والويل لك إن لم تربح.. هذا ليس الله الذي نؤمن بأنه محبة ومحبته مجانية تماماً. وإن اعتبرنا أن الله هو السيد الذي يوزع ماله على عبيده، كل حسب طاقته، لكان يحق لنا أن نُعيّر الله ونقول له أنت لديك تفضيل، تُفضّل واحد على الآخر. وإنْ قلنا أن كل موهبة هي من الله، أخطأنا في حق الله. لأننا بتنا في عالم يهوى شتى المواهب، فهل تعمل كلها لحساب ملكوت الله؟ لا أظن. إذاً ماذا؟ في الحقيقة الله يُعطي فقط الحياة، وإن تجرأت قليلاً أقول: "إن الله لا يُعطي شيئاً إلّا ذاته"، فالمحبة لا تعطي إلّا ذاتها. دور الإنسان هو في استقبال هذه الحياة التي هي الله نفسه. وبالتالي عيش الأمانة على أساس أنّ ما أعطانا الله إياه هو عطية وليس مُلكية، وبالتالي نفرغ من كل إمكانية للأنانية، للتملّك، ونصبح بدورنا، على مثال الله، قادرين على وهب أنفسنا، بكل مجانية، للآخرين. من هنا دور الكاهن ودور الإنسان المعمّد، أن يُعطوا مَنْ استقبلوه، وبكل مجانية، لأن الله أعطى ذاته بكل مجانية. لا نستطيع إذاً أن نقول، أنّ الوزنات هي مواهب، فالفارق كبير بين الإثنين، أقله من الناحية الكتابية. فالمواهب هي عطية الروح القدس، ليَخدُمَ الموهوب تحقيق ملكوت الله، فلا مجال للعبثية، حيث نرى في عالمنا أننا نَنسُب كل ما فينا، خيراً كان أم شراً لله. والله بريء من ذلك. إذا أعطانا الله الحياة، فهل يمكنه أن يأخذها منّا أو يسترجعها؟ إذا كان الجواب نعم، عندئذٍ نجعل الله يتناقض تناقضاً مطلقاً مع ذاته. نحن نقول بحسب هذا المفهوم في حالة الوفاة بأن الله أخذه. الله لا يأخذ أحداً، لأنه يستقبل الجميع، ولا يمكنه أن يسترجع عطيته لذاته، فهو إما معطي وإلى النهاية، أو غير معطي منذ البداية. ولهذا السبب نرى في نص إنجيل اليوم أنّ السيد لم يعطي أية توصيات بخصوص عطيته: أعطى الوزنات وسافر. هذا يعني أنّ الله يحترم حريتنا، حيث يمكننا أن نتصرف في حياتنا كما نريد، ونتحمل نحن نتيجة القرارات التي نأخذها، فإما أن تَصُبّ قراراتنا ضمن إطار العلاقة مع الله أو لا، إما أن نربح "يَا سَيِّد، سَلَّمْتَنِي خَمْسَ وَزَنَات، وهذِهِ خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخْرَى قَدْ رَبِحْتُهَا"، وإما أن نخسر "فَخِفْتُ وذَهَبْتُ وأَخْفَيْتُ وَزْنتَكَ في الأَرض، فَهَا هُوَ مَا لَكَ"، مهما كانت النتيجة، أربحٌ أم خسارة، لا يليق بنا أن نُحمّلَ الله مسؤولية أفعالنا. لأن هناك بعض الناس يقولون أن الله هكذا أراد، لأنهم يعتبرون أن كل شيء هو في يديه، وهم في الحقيقة لا يرون في الله سوى تلك الشماعة التي يُعلِّقون عليها أخطاءهم، كما فعل آدم وحواء عندما سألهم الله أين أنتم؟، كل ما فعل آدم هو أنه قال لله: "المرأة التي أنت خلقتها... هي أعطتني فأكلت" والمرأة قالت: "الحية أغوتني..". بقي لدينا أن نتحدث عن الأمانة "كنت أميناً.."، فالأمانة هنا تعني شيئاً واحداً، وهو الاستعداد لأن نكون شركاء الله في العمل نفسه، نعمل لحساب السيد، لا عكس منفعته، وهذا معنى أن تضع الكنيسة هذا النص في تذكار الكهنة المتوفين، لأنّ الكاهن يجب أن يكون أميناً وعاملاً حسب إرادة سيده، وبالتالي أي إنسان مسيحي، بما أننا نحمل والكهنة نفس الكهنوت بحسب معموديتنا. فلنتمتع إذاً يا أخوتي بتلك الأمانة، فنكون شركاء الله في عمله، ليقيمنا الرب على الكثير، وندخل في فرح سيدنا، حيث الحياة في الحبّ تأخذ كل أبعادها. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا. شركاء الله في العمل نفسه
أحد الكهنة المتوفين