مأساة الحبّ 

أحد بعد الصعود 

رسالة القدّيس بولس إلى أهل قولسّي (2: 16-23) 

يا إِخوَتِي، لا يَحْكُمَنَّ عَلَيكُم أَحَدٌ في طَعَامٍ أَو شَرَاب، أَو في أَمْرِ عِيدٍ أَو هِلالٍ أَو سَبْت:

فمَا هذِهِ إِلاَّ ظِلٌّ لِلأُمُورِ الآتِيَة، أَمَّا الحَقِيقَةُ فَهِيَ جَسَدُ المَسِيح.

لا يُخَيِّبَنَّكُم أَحَدٌ يُريدُ التَّخَشُّعَ والتَّعَبُّدَ لِلملائِكَة، غارِقًا في رُؤًى يتَخَيَّلُهَا ومُنْتَفِخًا ببَاطِلِ ذَكائِهِ البَشَرِيّ،

غَيرَ مُتَمَسِّكٍ بِالرَّأْسِ الَّذي مِنْهُ يَأْخُذُ الجَسَدُ كُلُّهُ مَا يَحْتَاج، فيَلتَئِمُ بالأَوصَالِ والمَفَاصِل، ويَنْمُو النُّمُوَّ الَّذي يَمْنَحُهُ الله.

إِنْ كُنْتُم قَدْ مُتُّم مَعَ الْمَسِيحِ عَنْ أَركَانِ العَالَم، فَلِمَاذَا تَخْضَعُونَ لِمِثْلِ هذِهِ الفَرائِض، كَأَنَّكُم مَا زِلْتُم تَعِيشُونَ في العَالَم؟

لا تَمَسَّ، ولا تَذُقْ، ولا تَلْمُس!

وهذِهِ كُلُّهَا فرائِضُ بِحَسَبِ وَصَايَا البَشَر، تَؤُولُ بِٱلٱسْتِعْمَالِ إِلى الفَسَاد!

إِنَّ لِمِثْلِ تِلكَ الفَرَائِضِ مَظْهَرَ حِكْمَة، فهيَ لا تَخلُو مِنْ تَعَبُّدٍ شَخْصِيٍّ وتَخَشُّعٍ وقَهْرٍ لِلجَسَد، ولكِنَّهَا لا قيمَةَ لَهَا، ومَا هيَ إِلاَّ لإِشْبَاعِ الهَوَى البَشَرِيّ.


إنجيل القدّيس يوحنّا (13: 31-36)

لَمَّا خَرَجَ يَهُوذا الإسخريُوطِيُّ قَالَ يَسُوع: «أَلآنَ مُجِّدَ ٱبْنُ الإِنْسَانِ ومُجِّدَ اللهُ فِيه.

إِنْ كَانَ اللهُ قَدْ مُجِّدَ فِيه، فَٱللهُ سَيُمَجِّدُهُ في ذَاتِهِ، وحَالاً يُمَجِّدُهُ.

يَا أَوْلادي، أَنَا مَعَكُم بَعْدُ زَمَنًا قَلِيلاً. سَتَطْلُبُونِي، ولكِنْ مَا قُلْتُهُ لِلْيَهُودِ أَقُولُهُ لَكُمُ ٱلآن: حَيْثُ أَنَا أَمْضِي لا تَقْدِرُونَ أَنْتُم أَنْ تَأْتُوا.

وَصِيَّةً جَديدَةً أُعْطِيكُم، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا. أَجَل، أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم.

بِهذَا يَعْرِفُ الجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض».

قَالَ لَهُ سِمْعَانُ بُطْرُس: «يَا رَبّ، إِلى أَيْنَ تَمْضِي؟». أَجَابَهُ يَسُوع: «حَيْثُ أَمْضِي، لا تَقْدِرُ الآنَ أَنْ تَتْبَعَنِي. ولكِنَّكَ سَتَتْبَعُنِي فيمَا بَعْد».

الموعظة

يتضح جليّاً، من خلال كل ما جاء في التاريخ الإنساني، والكتب المقدسة، أن مشكلة التاريخ الحقيقية هي مشكلة تمييز بين القدرة وعدم القدرة على الحب، حيث أنه باتت القيم الأخلاقية والحقيقة تقاس بالكم والمنفعة. ولعلّ الطبيعة تُخبرنا أننا ذاهبون شيئاً فشيئاً إلى التصحّر..!! فما ينتج عن عمل الإنسان في الطبيعة هو في الواقع يعكس نفسيته، أي أن التصحّر يبدأ في النفس وينعكس على الطبيعة، وكلما زادت صحراء نفوسنا، كلما زادت الصحاري من حولنا، فلا نعود للتمتع باخضرار وخصوبة الأرض. وبالتالي لا نعود للتمتع بالحب في أوساطنا البشرية، وتغدو الحياة إنغلاقاً مميتاً على الذات.

يقول القديس أوغسطينوس: "التاريخ معركة مع نوعين من الحب، حبّ الله حتى إنكار الذات، وحب الذات حتى رفض الله"، لقد صدق القديس أوغسطينوس، وأضيف أننا ابتدعنا صراعات في أنواع الحب، فصارت المعركة تأخذ، رغم أشكالها العديدة والمتنوعة، شكلاً واحداً، وهو إيجاد الذات وإنكار الآخر. فلم يعد الصراع بين القدرة على الحب أو اللاّ حبّ، بل صار في خط القدرة على اللاّ حبّ، فأريد أن أُثبت ذاتي وأوجدها بإبعاد الآخر الذي يُشكّل وجوده ألماً، وأريد أن أجني مالاً على حساب أن يحظى الآخر به، وأريد أن يلمع نجمي أنا، دون أن يكون الآخر، لا بل أن يكون الآخر في عتمة وظلم وظلام التاريخ. فتشوا الواقع تجدون هذا كله متجلياً في الصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعرقية، بين الدول والمجتمعات، وفي الكنيسة.

وهنا لا بدّ لنا أن نضع تركيزنا في محله، ليس مستهجناً أن نجد في العالم القدرة على اللاّ حبّ، لكن من المستهجن والغريب أن نجد مثل هذه القدرة في الكنيسة ومن جميع أعضائها ومكوناتها،

فالوصية الجديدة التي تلخّص كل عمل الرب يسوع المسيح، وبالتالي العهد الجديد، أي الكنيسة بالذات، هي: "أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم"، هذه الوصية هي القدرة على الحبّ في زمن اللّا حبّ، وهي في نظر يسوع، قول الـ: "نعم" للحب، وبهذا أعاد يسوع الصراع إلى شكله الطبيعي، أي أن يكون بين الـ: "نعم" للحب والـ: "لا" للحب. وما يريد يسوع منا أن نفعله هو نقول نعم للحب، ونتحول إلى محبين على صورته، مثلما أحب هو فعلاً. فهو لم يُبعد الإنسان بل أبعد ذاته، وهو لم يسحق الإنسان ليثبت وجوده، بل انسحق هو ليوجد الإنسان بأبهى صورة. ومن هنا على الكنيسة بكل أعضائها، أن تنفذ الوصية، أن تحب كما أحب الرب. 

وتجدر الإشارة إلى أننا نقع أحياناً في فخ حب الله، أي أننا نحب الله دون الآخرين، في حين أن يسوع لم يقل أحبوني كما أحببتكم، بل أحبوا بعضكم كما أحببتكم، فالبقاء على الصعيد العمودي في العلاقة مع الله يفقدنا خاصية جوهرية وهي فعله هو لأجل الإنسان. فلا نستطيع الارتباط بالله دون أن نكون مرتبطين ببعضنا البعض، ولا يستطيع أحد أن يُحب الله دون أن يُحب الإنسان.

يبدأ إنجيل اليوم بعبارة "لَمَّا خَرَجَ يَهُوذا الإسخريُوطِيُّ"، فانظروا كيف كان حب يسوع حتى لمن خانه، فهو في ليلة العشاء الأخير، غسل أقدام الرسل ومن بينهم يهوذا، وعند مشاركة الخبز أعطاه ليأكل معه، رغم معرفته بأنه مسلّمه، لقد شاركه بكل ما لديه، أي ذاته، ليبقى معه في سواد حياته، ولم يقطع عنه الحب، بل بذل ذاته أيضاً لأجله. ربما نحن نقول أنه كان على يسوع، بما أنه كان عارفاً بأمر خيانة يهوذا، أن يطرده أو يتصرف بشيء يضعه عند حده، فلا يُقدم على فعلته التي أطاحت بيسوع على الصليب، ولكن هذا هو فكرنا، إقصاء الآخر وما يسببه لنا من ألم، في الوقت الذي يقول يسوع شاركوا وانطلقوا نحو الإنسان حتى ولو لم يكن صالحاً.

إننا نعتمد في حبنا على صلاح من نرتبط به، ومن يحقق لنا سلامنا وأمننا وأيضاً مصلحتنا، وهذا شكل من أشكال اللّا حبّ الذي تحدثت عنه سابقاً في عظتي، لأن الحب، يأخذ كل معناه في أن أبقى محبّاً إلى النهاية، حتى عندما أكون أنا المتضرر الأكبر.

قد نفشل في الحب، لأننا لم نعمل بشكل كافٍ للتخلص من حبنا لذواتنا، ولأننا لم نحاول مراراً وتكراراً، بل اكتفينا بالمشاعر، ولأننا نعتبر الحب شيئاً مضافاً إلى خواص إنسانيتنا، في حين أن الحب هو حقيقتنا. فبدل أن يكون عندي حب، أصبح أنا حباً على مثال من هو محبة، أي الله.

يقول القديس يوحنا: "الله هو الحب، ويرغب في وجود كائنات تشبهه، فتأخذ النور المنبعث منه، وتنشره في كل مكان". وطبعاً هذه الكلمات ما هي إلاّ انعكاس وصدى لكلمات يسوع: "بِهذَا يَعْرِفُ الجَمِيعُ أَنَّكُم تَلامِيذِي، إِنْ كَانَ فيكُم حُبُّ بَعْضِكُم لِبَعْض"، لذلك تحويل مأساة التاريخ والصراع الإنساني إلى مأساة حبّ هو دور الكنيسة الاستثنائي في العالم، وهو كل دورها، ولا شيء غير ذلك.

لربما استغربتم كلمة (مأساة حبّ) في الجملة السابقة، فأقول لكم: لا بدّ من وجود الصراع، ولا بدّ من أن ينتج عن هذا الصراع مآسي، لكن يبقى الفرق بين مأساة في اللاّ حب، ومأساة في الحبّ، فنحن على مثال الرب يسوع المسيح، نصارع في المعركة، نتألم ونموت، ببذل ذواتنا، وهذا كله مأساة، ولكن مأساة في الحبّ. ولا نستطيع أن نلغي هذه المأساة أبداً، أقله هنا على الأرض.

فإذا لنقبل الوصية، ونحب بعضنا بعضاً كما أحبنا الرب، ليعرف العالم أننا تلاميذه، وليأخذ التاريخ منحىً آخر، فلا تسود صحاري نفوسنا بعد، بل اخضرار أوراقنا، وزهر محبتنا، وثمار ارتباطنا، فيأكل العالم ليشبع من حب الله الذي فينا.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.