إننا نريد صانع معجزات 

الأحد الرابع بعد العنصرة 

رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (4: 6-16) 

وأَنَا لأَجْلِكُم، أَيُّهَا الإِخْوَة، جَعَلْتُ مِنْ نَفْسِي وَمِنْ أَبُلُّوسَ مِثَالاً، لِتَتَعَلَّمُوا بِنَا مَعنَى هذَا القَوْل: «لا شَيءَ فَوقَ مَا هُوَ مَكْتُوب»، فلا يَنْتَفِخَ أَحَدٌ مِنَ الكِبْرِيَاءِ مُتَحَزِّبًا لِوَاحِدٍ ضِدَّ الآخَر.

فَمَنِ الَّذي يُمَيِّزُكَ عَنْ غَيْرِكَ؟ وأَيُّ شَيءٍ لَكَ وَلَمْ تَأْخُذْهُ هِبَةً؟ وإِنْ كُنْتَ أَخَذْتَهُ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْهُ؟

هَا قَدْ شَبِعْتُم! هَا قَدِ ٱغْتَنَيْتُم، وَمَلَكْتُم مِنْ دُونِنَا! ويَا لَيْتَكُم مَلَكْتُم حَتَّى نَمْلِكَ نَحْنُ أَيْضًا مَعَكُم!

فإِنِّي أَرَى أَنَّ اللهَ قَدْ أَظْهَرَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ أَدْنَى النَّاس، كأَنَّنَا مَحْكُومٌ عَلَيْنَا بِالمَوت، لأَنَّنَا صِرْنَا مَشْهَدًا لِلعَالَمِ والمَلائِكَةِ والبَشَر.

نَحْنُ حَمْقَى مِنْ أَجْلِ المَسِيح، وأَنْتُم عُقَلاءُ في المَسِيح! نَحْنُ ضُعَفَاء، وأَنْتُم أَقْوِيَاء! أَنْتُم مُكَرَّمُون، وَنَحْنُ مُهَانُون!

ولا نَزَالُ حَتَّى هذَهِ السَّاعَةِ نَجُوعُ ، ونَعْطَشُ، ونُعَرَّى، ونُلْطَمُ، ونُشَرَّدُ،

ونَتْعَبُ عَامِلِينَ بِأَيْدِينَا! وحَتَّى الآنَ نُشْتَمُ فَنُبَارِك، نُضْطَهَدُ فَنَحْتَمِل،

يُفْتَرَى عَلَيْنَا فَنُعَزِّي! لَقَدْ صِرْنَا مِثْلَ أَقْذَارِ العَالَم، وَنِفَايَةِ النَّاسِ أَجْمَعِين!

لَسْتُ أَكْتُبُ إِلَيْكُم بِذَلِكَ لأُخْجِلَكُم، بَلْ لأَنْصَحَكُم كأَوْلادِي الأَحِبَّاء!

ولَو كَانَ لَكُم عَشَرَاتُ الآلافِ مِنَ المُرَبِّينَ في المَسِيح، فَلَيْسَ لَكُم آبَاءٌ كَثِيرُون، لأَنِّي أَنَا ولَدْتُكُم بِبِشَارَةِ الإِنْجِيلِ في المَسِيحِ يَسُوع.

أُنَاشِدُكُم إِذًا أَنْ تَقْتَدُوا بي.


إنجيل القدّيس متّى (14: 14-23)

ولَمَّا خَرَجَ يَسُوعُ مِنَ السَّفِيْنَة، رَأَى جَمْعًا كَثِيْرًا، فَتَحَنَّنَ عَلَيْهِم وشَفَى مَرْضَاهُم.

ولَمَّا كَانَ المَسَاء، دَنَا مِنْهُ التَّلامِيْذُ يَقُولُون: «أَلْمَكَانُ قَفْرٌ، والسَّاعَةُ قَدْ فَاتَتْ، فَٱصْرِفِ الجُمُوعَ لِيَذْهَبُوا إِلى القُرَى ويَشْتَرُوا لَهُم طَعَامًا».

فقَالَ لَهُم يَسُوع: «لا حَاجَةَ بِهِم أَنْ يَذْهَبُوا. أَعْطُوهُم أَنْتُم لِيَأْكُلُوا».

فقَالُوا لَهُ: «لَيْسَ لَدَيْنَا هُنَا سِوَى خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وسَمَكَتَيْن».

فَقَالَ: «ٱئْتُوني بِهَا إِلى هُنَا».

وأَمَرَ الجُمُوعَ أَنْ يَتَّكِئُوا عَلى العُشْب، ثُمَّ أَخَذَ الأَرْغِفَةَ الخَمْسَةَ والسَّمَكَتَيْن، ورَفَعَ نَظَرَهُ إِلى السَّمَاءِ فَبَارَكَ، وكَسَرَ الأَرْغِفَةَ فَنَاوَلَ التَّلامِيْذ، والتَّلامِيْذُ نَاوَلُوا الجُمُوع.

فَأَكَلُوا جَمِيْعُهُم وشَبِعُوا، ورَفَعُوا مِنْ فَضَلاتِ الكِسَرِ ٱثْنَتَي عَشْرةَ قُفَّةً مَمْلُوءَة.

وكَانَ الآكِلُونَ نَحْوَ خَمْسَةِ آلافِ رَجُلٍ مَا عَدَا النِّسَاءَ والأَطْفَال.

وفي الحَالِ أَلْزَمَ يَسُوعُ التَّلامِيْذَ أَنْ يَرْكَبُوا السَّفِيْنَةَ ويَسْبِقُوهُ إِلى الضَّفَّةِ الأُخْرَى، رَيْثَمَا يَصْرِفُ الجُمُوع.

وبَعْدَمَا صَرَفَ الجُمُوعَ صَعِدَ إِلى الجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّي. ولَمَّا كَانَ المَسَاء، بَقِيَ يَسُوعُ وَحْدَهُ هُنَاك.

الموعظة

نقرأ اليوم معجزة تكثير الأرغفة الخمسة والسمكتين، وفي الحقيقة هي ليست معجزة، وإنما هي قراءة مختلفة، من منظور آخر، لحدث يسوع المسيح الفصحي، وأيضاً هي قراءة لعمل الكنيسة.

إذا انتقل تصورنا من فعل الإبهار في المعجزة، إلى قراءةٍ نجد فيها حدث يسوع الفصحي، حينها نفهم أنّ يسوع لا يريد صنع الخوارق التي تفوق قدرة الإنسان، وإنما نجد دور يسوع في سد جوع الإنسان العميق، من خلال تحقيق هذا الإنسان لذاته، وتبنيه لعمل الله.

يسوع يقدم نفسه طعاماً، هذا ما نراه في الليلة التي سبقت الصلب. يعطي جسده ودمه مأكلاً ومشرباً حقاً، وهذا ليس انعكاساً لمعجزة تكثير الخبز والسمك وحسب، وإنما أيضاً، هو تطور في المفهوم والمقصود، ليكون لدى القارئ ولدى جميع من تبع يسوع في الطريق، دلالة على أن كل حياة يسوع تصب في تقدمة ذاته، ومنه هو فقط، يشبع الناس.

لقد صرف يسوع الجميع، صرف التلاميذ ليسبقوه إلى الضفة الأخرى، وصرف جموع الناس، وبقي وحده هناك. هذه العزلة تُذكرنا ببستان الزيتون حيث يسوع وحده يُصلي ليُبعد الآب عنه هذه الكأس. وأيضاً هذا ما حدث عند الصليب، عندما الجميع ذهبوا ولم يبقى أحد. 

نحن نفرح عندما نجد يسوع يُلبي الرغبة العميقة الموجودة في داخلنا، وهذا فقط عندما يُشبعنا، أما عند الصليب، فجميعنا نهرب ونتبدد.

نحن نقبل بيسوع فقط عندما يُحقق لنا ما نطلب، ولا نقبل البتة أن نُحقق له ما يطلب. إننا نريد صانع معجزات لا أكثر ولا أقل. نريد من يقوم عنا بالمهام، لا بل نريد منه أن يُشبعنا مادياً، يُشبع خيرنا الزمني، فنحن لا نتطلع إلى الجوع الروحي، وننسى أنه قال: "طوبى لفقراء الروح، لأن لهم ملكوت السماوات" (متى 5: 3).

هل نقترب من الله ونقيم علاقة معه فقط على اعتباره شخصاً يُحبنا، أم أننا نرتبط به كضامن حياة أرضية؟ في الحقيقة نحن لا نريد سوى ذواتنا، لا نريد الآخر أبداً، حتى ولو كان الله. وإن أردنا واخترنا الله فهذا إما لأن فكرة الثواب والعقاب تخيفنا، وإما لأننا نجد فيه ما يُلبي حاجاتنا.

لقد حوّلنا الله إلى جمعية إنسانية تُعنى بحقوق الإنسان، نذهب إليه لنرى ماذا سوف يعطينا، وفي النهاية ماذا سوف نستفيد ونحصل عليه. إن كان لديه خبزاً.. أكلنا.. وإن كان لديه ما نشربه، شربنا.. أما إذا كان لديه صليب، هربنا.

يُخبرنا نص المعجزة أن الجميع شبعوا ورفعوا اثنتي عشرة قفة مملوءة. شبعوا ولما صرفهم، ذهبوا، فهل فهموا ما معنى الخبز الذي أكلوه؟

إن بقينا عند المعجزة وهي إشباع الجائعين، فإننا سوف نعود جائعين، أما إذا انتقلنا في المفهوم إلى أن إشباع الجموع هو إشباع جوع الإنسان، وبالتالي فكرة أن الله يُعطي ذاته لنا، لا فقط ما نحتاج إليه مؤقتاً، فإننا بهذا ننطلق ولا نذهب، وهنا فرق كبير في التعبير، أي عندما نذهب محملين وشبعى من الجمعية الإنسانية نشعر أننا حصلنا على حصتنا وانتهى الأمر، ولكن عندما ننطلق فإننا نحمل معنا المعنى ولا نعود إلى ما كنا عليه سابقاً، ولا نعود أدراجنا إلى بيوتنا، بل ننطلق إلى الآخرين نعطيهم ما أُعطينا. هذا ما نراه في مختلف نواحي الإنجيل وفي الأحداث التي التقى بها يسوع مع الناس الجالسين على جانب الطريق وقال لهم اتبعوني، فيخبرنا الإنجيل أنهم انطلقوا معه في الطريق.

لا ترتبط بالله وأنت لا تعرف ما يعطيك..! الله لا يعطيك إلاّ ذاته. نحن نطلب من الله ما يروق لنا. والله يعطينا ما يليق بنا. والفرق كبير بين الإثنين. يكفي أن نقرأ إنجيل القديس متى (6: 25-34) لنعرف أنه يجب أن نطلب أولاً ملكوت الله.

لا تقف عند صانع المعجزات، وأنت لا تعمل أي شيء. انظر إلى القفة المملوءة المباركة التي يُسلّمها إليك الرب، لتنطلق في الطريق تُعطي الناس من حولك، من خير الرب، خيوراً سماوية مباركة ومقدسة.

تعلم أن تعطي ذاتك قبل أن تعطي ما عندك، كالمعلم يسوع حيث أنه أعطى ذاته فقط وهذا ملخص الإنجيل كله.

إن الوقوف أمام الرب كصانع معجزات فقط، يجعل منك أنانياً، تريد ما هو لك فقط، غير أنّ الإنطلاق من عند صانع المعجزات إلى الآخرين يجعل منك أنت أيضاً طعاماً يُقدّم إلى الجائعين في هذا العالم، وهنا لا أقصد الجوع المادي فقط، بل الروحي أيضاً وهو المهم في نهاية الأمر.

معجزة اليوم ليست في تكثير القليل من الخبز والسمك فقط، بل بتحوّل الجوع إلى شبع، وبالأكثر، بتحوّل الجمع المشتت إلى جماعة، إلى كنيسة. فالافخارستيا تصنع الكنيسة، وتضم إليها كل الناس، يتقاسموا الشبع الذي يعطيه الله ليسد به جوعنا الحقيقي. ولا تتحقق الكنيسة - الجماعة المؤمنة، إذا وقفنا عند إله يصنع المعجزات فقط، ولكنها تتحقق عندما نتعلم من الله كيف يُحب، إذ أنه أعطى ذاته، وإلى هذا نحن أيضاً مدعوون إلى نعطي ذواتنا ونعطي الله الذي حصلنا عليه.

 هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.