الموعظة "في اليَوْمِ الثَّامِنِ جَاؤُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيّ، وسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَريَّا." هكذا كانت العادة، أن يُختن الطفل في اليوم الثامن ويأخذ اسماً، لا أي اسم، بل اسم أبيه، لأن على الطفل أن يسير في خطوات والده، وأن يعمل عمله أيضاً، فكما أن زكريا كان كاهناً، كذلك ابنه، كان متوقعاً له أن يحذو حذو أبيه، فلا يخرج الكهنوت من العائلة، إلّا أنّ الله كان له كلام آخر. أن يُسمى الطفل اسماً آخر، غير اسم أبيه، بخلاف المعتاد، يعني هذا أنّ الطفل لن يسير على خطوات والده، ولن يعمل عمله أيضاً، فلو أن يوحنا سُمّي بـ: "زكريا جونيور (الصغير)"، فلن يكون للقصة أي معنى لتُكتب ونقرأها. لكن، وكما أنّ العادة هي أن يسمّى الطفل باسم أبيه، كذلك هي العادة، في تاريخ العلاقة مع الله، وحسب التقاليد، أن يأخذ اسماً جديداً كل مَن له دعوة خاصة من قبل الله. مثل أبرام الذي صار اسمه إبراهيم وساراي أصبحت سارة ويعقوب سمّي اسرائيل..إلخ. لقد تَعجّب الناس من عدم تسمية يوحنا باسم أبيه زكريا، والأمر الذي يدعوني للدهشة هو عدم ذكر تعجب الناس من فكرة كيف أن زكريا وأليشباع العاقرين قد حصلا على طفل في شيخوختهما..!! الأمر الذي يجعلني أسأل عن المعنى الذي يُريد القديس لوقا أن يعطينا إياه في سرده لقصة ولادة يوحنا. المعنى يتلخص في هذه الفكرة: "لن يكون يوحنا كاهناً، بل نبيّاً". وهذا يعني أن مسيرة هذا الطفل لن تكون عادية، ولن تأخذ طابعاً عادياً، ففي بشارة الملاك جبرائيل لزكريا بحبل أليشباع بيوحنا، أخبره الملاك كيف ومَن سيكون هذا الطفل، وعند ولادته وإشارة زكريا لتسميته بيوحنا وتأكيده على كلام الملاك، انتفح فمه وبارك الله، وفي مباركته قال: "وأَنْتَ، أَيُّهَا الصَّبِيّ، نَبِيَّ العَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَسِيرُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ"، الأمر الذي يجعلنا نفهم قصد الله في هذا الطفل. سيسير يوحنا بحسب قصد الله، ويُعلن حنانه تجاه شعبه، فلكل شخصٍ من اسمه نصيب. مع يوحنا يبدأ تاريخ العلاقة مع الله بالتحوّل، لينتهي به العهد القديم ويبدأ معه العهد الجديد، وخاصة أن يوحنا سيكون السابق المهيئ لمجيء المسيح. عندما نقول "تحوّل" نعني أن هناك شيئاً ما قد تغيّر، أو نقصد مسيرة التغيير التي تطال عملية التحوّل، ولعل أهم عوامل التحوّل هو كسر العادات اليومية التي نتبعها، هذا على الصعيد الشخصي، وإن كان لنا علاقة مع الله، فالتحوّل يأخذ بعداً آخراً، فمن غير الممكن ألّا نتحوّل مما نحن عليه إلى ما يجب أن نكون عليه. "إِسْمُهُ يُوحَنَّا!"، هذا التأكيد بخط زكريا يُعلن تحوّلاً وتغييراً، ليس من السهل أن يقبله الجيران والأقارب، حتى زكريا وأليشباع، المعتادين على عيش التقاليد وحفظها، ولكن الذين يفتحون قلبهم لعمل الله، سيقبلون بالتغيير، ليحققوا مقصد الله فيهم. اسم الشخص يعني الكائن نفسه في ذاتيته وفرديته الواقعية والشخصية، أي بنفسه وليس آخر غيره، بكل ما يحتويه من كيان، والاسم يدل على هوية الشخص، وفي الكتاب المقدس، يحمل كل كائن الاسم الذي يتفق مع الدور الذي أنيط به. خصوصاً عندما تكون هذه الرسالة إلهية، فيأتي اسمه من السماء كما حدث ليوحنا في إنجيل اليوم، وعلى مر الشخصيات التي نقرأ عنها في الكتاب المقدس، نجد أنفسنا أمام أناسٍ قلبوا حياتهم لتتوافق مع متطلبات الدعوة الإلهية التي رسمت حياتهم بشكل يختلف عن المعتاد، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على أهمية التحوّل في مسيرة حياتنا وسلوكنا عندما يتعلق الموضوع بتلبية دعوة الله لنا. بشكل عام الهوية تعني الكينونة، كينونة الشخص البشري، وتتكون هذه الكينونة من العادات والتقاليد الموروثة، ومع تكرار هذه العادات اليومية، تصبح الهوية منوطة بها، بكلام آخر، الهوية تنبع من العادات. والعادات إجمالاً تتسم بالسلبية و الإيجابية على حدٍ سواء، وما جعل زكريا يُغيّر عاداته أو نمط تفكيره هو إيمانه بعمل الله، وتأكيده على الاسم (اسم يوحنا) يوضّح قبوله لإعلان الله، خاصةً وأنّ اسم يوحنا قد منحه الله ليدل به على هوية المولود الجديد. أراد الله أيضاً، أن يمنح البشرية، من خلال يوحنا، كشفاً عن هويته الشخصية، فمعنى اسم يوحنا هو: (الله تحنن، أو الله أعطى نعمة)، أي أنه كشف عن ذاته على أنه محبة ومحبة مجانية، الأمر الذي سيؤكده يسوع بمسيرة حياته وبالفداء الذي منحه وهو على الصليب. لقد تحوّلت حياة زكريا وأليشباع بولادة يوحنا من العقم إلى الخصب، بمجرد أنهما قَبِلا ما أراده الله، هكذا كل واحد منا، إذا قَبِلَ الله في حياته، يتحوّل ليكتشف هويته الحقيقية، ففي النهاية، الإنسان مدعو إلى أن يكون ما هو في الحقيقة. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.هوية يوحنا، هوية الله
أحد مولد يوحنا
رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية (4: 19-27)
يَا أَوْلادِيَ الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُم ثَانِيَةً حتَّى يُصَوَّرَ المَسِيحُ فيكُم!
كُنْتُ أَوَدُّ أَنْ أَكُونَ الآنَ حَاضِرًا عِنْدَكُم، وأُغَيِّرَ لَهْجَتِي، لأَنِّي مُحْتَارٌ في أَمْرِكُم!
قُولُوا لي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا في حُكْمِ الشَّرِيعَة، أَمَا تَسْمَعُونَ الشَّرِيعَة؟
فإِنَّهُ مَكْتُوب: كَانَ لإِبْراهيمَ ٱبْنَان، واحِدٌ مِنَ الجَارِيَة، ووَاحِدٌ مِنَ الحُرَّة.
أَمَّا الَّذي مِنَ الجَارِيَةِ فقَدْ وُلِدَ بِحَسَبِ الجَسَد، وَأَمَّا الَّذي مِنَ الحُرّةِ فَبِقُوَّةِ الوَعْد.
وفي ذلِكَ رَمْزٌ: فَسَارَةُ وهَاجَرُ تُمَثِّلانِ عَهْدَين، عَهْدًا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ يَلِدُ لِلعُبُوديَّة، وهُوَ هَاجَر؛
لأَنَّ هَاجَرَ هيَ جَبَلُ سِينَاءَ الَّذي في بِلادِ العَرَب، وتُوافِقُ أُورَشَليمَ الحَالِيَّة، لأَنَّهَا في العُبُودِيَّةِ هيَ وأَوْلادُهَا.
أَمَّا أُورَشَليمُ العُلْيَا فَهِيَ حُرَّة، وهِيَ أُمُّنَا؛
لأَنَّهُ مَكْتُوب: «إِفْرَحِي، أَيَّتُهَا العَاقِرُ الَّتي لَمْ تَلِدْ؛ إِنْدَفِعِي بِالتَّرْنِيمِ وَ ٱصْرُخِي، أَيَّتُهَا الَّتي لَمْ تَتَمَخَّضْ؛ لأَنَّ أَولادَ المَهْجُورَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَولادِ المُتَزَوِّجَة».
إنجيل القدّيس لوقا (1: 57-80)
تَمَّ زَمَانُ إِليصَابَاتَ لِتَلِد، فَوَلَدَتِ ٱبْنًا.
وسَمِعُ جِيرانُهَا وأَقَارِبُها أَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا.
وفي اليَوْمِ الثَّامِنِ جَاؤُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيّ، وسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَريَّا.
فأَجَابَتْ أُمُّهُ وَقالَتْ: «لا! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا!».
فقَالُوا لَهَا: «لا أَحَدَ في قَرابَتِكِ يُدْعَى بِهذَا ٱلٱسْم».
وأَشَارُوا إِلى أَبِيهِ مَاذَا يُريدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ.
فطَلَبَ لَوْحًا وكَتَب: «إِسْمُهُ يُوحَنَّا!». فَتَعَجَّبُوا جَمِيعُهُم.
وٱنْفَتَحَ فَجْأَةً فَمُ زَكَرِيَّا، وٱنْطَلَقَ لِسَانُهُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ ويُبَارِكُ ٱلله،
فَٱسْتَولى الخَوْفُ على جَمِيعِ جِيرانِهِم، وتَحَدَّثَ النَّاسُ بِكُلِّ هذِهِ الأُمُورِ في كُلِّ جَبَلِ اليَهُودِيَّة.
وكانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِذلِكَ يَحْفَظُهُ في قَلْبِهِ قَائِلاً: «ما عَسَى هذَا الطِّفْلُ أَنْ يَكُون؟». وكانَتْ يَدُ الرَّبِّ حَقًّا مَعَهُ.
وَٱمْتَلأَ أَبوهُ زَكَرِيَّا مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فَتَنبَّأَ قائِلاً:
«تَبَارَكَ الرَّبُّ، إِلهُ إِسْرَائِيل، لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ شَعْبَهُ وٱفْتَدَاه.
وأَقَامَ لنَا قُوَّةَ خَلاصٍ في بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاه،
كمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ القِدِّيسِينَ مُنْذُ القَدِيم،
لِيُخَلِّصَنَا مِنْ أَعْدَائِنَا، ومِنْ أَيْدي جَمِيعِ مُبغِضِينَا،
ويَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا، ويَذْكُرَ عَهْدَهُ المُقَدَّس،
ذاكَ القَسَمَ الَّذي أَقسَمَهُ لإِبرَاهِيمَ أَبِينَا، بِأَنْ يُنْعِمَ عَلَينا،
وقَدْ نَجَوْنَا مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، أَنْ نَعبُدَهُ بِلا خَوْف،
بِالقَدَاسَةِ والبِرِّ، في حَضْرَتِهِ، كُلَّ أَيَّامِ حيَاتِنَا.
وأَنْتَ، أَيُّهَا الصَّبِيّ، نَبِيَّ العَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَسِيرُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ،
وتُعَلِّمَ شَعْبَهُ الخَلاصَ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُم،
في أَحشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا، الَّتي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا المُشْرِقُ مِنَ العَلاء،
لِيُضِيءَ على الجَالِسِينَ في ظُلْمَةِ المَوْتِ وظِلالِهِ، ويَهْدِيَ خُطَانَا إِلى طَرِيقِ السَّلام.»
وكَانَ الصَّبيُّ يَكْبُرُ ويَتَقَوَّى في الرُّوح. وكانَ في البَرارِي إِلى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيل.