المحبة قبول وعطاء 

الأحد الثامن بعد العنصرة 

رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية (2: 15-21) 

نَحْنُ بِالطَّبِيعَةِ يَهُود، لا خَطَأَةٌ مِنَ الأُمَم.

ولكِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لا يُبَرَّرُ بأَعْمَالِ الشَّريعَة، بَلْ بِالإِيْمَانِ بيَسُوعَ المَسِيح. لِذَلِكَ آمَنَّا نَحْنُ أَيْضًا بِالمَسِيحِ يَسُوع، لِكَي نُبَرَّرَ بِالإِيْمَانِ بِالمَسِيح، لا بِأَعْمَالِ الشَّريعَة، لأَنَّهُ مَا مِن بَشَرٍ يُبَرَّرُ بِأَعْمَالِ الشَّرِيعَة.

فإِنْ كُنَّا، ونَحنُ نَسْعَى أَنْ نُبَرَّرَ في المَسِيح، قَد وُجِدْنَا نَحْنُ أَيْضًا خَطَأَة، فهَلْ يَكُونُ المَسِيحُ خَادِمًا لِلخَطِيئَة؟ حَاشَا!

فإِنْ عُدْتُ أَبْنِي مَا قَد هَدَمْتُ، جَعَلْتُ نَفسِي مُتَعَدِّيًا؛

لأَنِّي بِشَريعَةِ المَسِيحِ مُتُّ عنِ الشَّريعَة، لِكَي أَحْيَا لله. لَقَدْ صُلِبْتُ مَعَ المَسِيح:

فلَسْتُ بَعْدُ أَنَا الحَيّ، بَلِ المَسِيحُ هُوَ الْحَيُّ فِيَّ. وإِنْ كُنْتُ الآنَ حيًّا في الجَسَد، فإِنِّي حَيٌّ بالإِيْمَانِ بِابْنِ الله، الَّذي أَحَبَّنِي وبَذَلَ نَفْسَهُ عَنِّي.

ولَسْتُ أُبْطِلُ نِعْمَةَ الله؛ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ التَّبْرِيرُ بِالشَّرِيعَة، فبَاطِلاً إِذًا مَاتَ المَسِيح!


إنجيل القدّيس لوقا (9: 10-17)

وَعادَ الرُّسُل، وَأَخْبَرُوا يَسُوعَ بِكُلِّ مَا عَمِلُوا، فَأَخَذَهُم وٱنْصَرَفَ مَعَهُم عَلى ٱنْفِرَادٍ إِلى مَدينَةٍ تُدْعَى بَيْتَ صَيْدا.

وَلَمَّا عَرَفَ الجُمُوعُ تَبِعُوه. فٱسْتَقْبَلَهُم وَأَخَذَ يُكَلِّمُهُم عَنْ مَلَكُوتِ الله، وَيَشْفِي المُحْتاجِينَ إِلى شِفَاء.

وَبَدَأَ النَّهَارُ يَمِيل، فَدَنَا مِنْهُ الاثْنَا عَشَرَ وَقَالوا لَهُ: «إِصْرِفِ الجَمْعَ لِيَذْهَبُوا إِلى القُرَى وَالضِّيَعِ المُجَاوِرَة، فَيَبيتُوا وَيَجِدُوا طَعَامًا، لأَنَّنا هُنَا في مَكَانٍ قَفْر».

فَقَالَ لَهُم يَسُوع: «أَعْطُوهُم أَنْتُم لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا: «لَيْسَ عِنْدَنا أَكْثَرُ مِنْ خَمْسَةِ أَرْغِفَةٍ وَسَمَكتَين! إِلاَّ إِذَا ذَهَبْنا نَحْنُ أَنْفُسُنَا، وٱشْتَرَيْنا طَعَامًا لِهذَا الشَّعْبِ كُلِّهِ!».

وكَانُوا نَحْوَ خَمْسَةِ آلافِ رَجُل. فَقالَ يَسُوعُ لِتَلامِيذِهِ: «أَجْلِسُوهُم فِئَات، في كلٍّ مِنْها نَحْوُ خَمْسِين».

فَفَعَلُوا، وَأَجْلَسُوهُم جَمِيعًا.

وَأَخَذَ يَسُوعُ الأَرْغِفَةَ الخَمْسَةَ وَالسَّمَكَتَين، وَرَفَعَ نَظَرَهُ إِلى السَّمَاء، فباَرَكَهَا، وَكَسَر، وَجَعَلَ يُنَاوِلُ التَّلامِيذَ لِيُقَدِّمُوا لِلجُمُوع.

فَأَكَلُوا جَميعُهُم وَشَبِعُوا. وَرَفَعُوا مَا فَضَلَ عَنْهُم، اثْنَتَي عَشْرَة قُفَّةً مِنَ الكِسَر.

الموعظة

في عظة سابقة لنفس نص إنجيل اليوم، هذا رابطها: الجائع يشبع بالمشاركة لا بالإحسان، تكلمت عن أهمية المشاركة، فالإحسان قد يملأ البطون، لكن المشاركة تصنع الإنسانية.

ظاهرياً يحمل النص خبر إمكانية أو قدرة يسوع على اجتراح المعجزات، فهو كثّر الخبز والسمك، ولكن باطنياً وجوهرياً نرى أنّ المعجزة الحقيقية هي في تحويل طمع وشجع الإنسان إلى عطاء، والمعجزة الحقيقية هي في المشاركة بين المجتمعين وهذا ما نفعله في كل قداس، حيث نتقاسم ونتشارك كلمة الله وأيضاً جسد ودم الرب يسوع المسيح، لنتعلم التقاسم والمشاركة في كل زاوية من زوايا حياتنا، وخصوصاً في عالمنا الحاضر، حيث بتنا اليوم في عالم استهلاكي يتصارع فيه الناس لتحقيق مكاسب شخصية فقط دون النظر إلى الآخر، بل بسحق الآخر للحصول على ما نريد.

دعونا اليوم نتكلم عن النص أو المعجزة بنظرة مختلفة. فلنتكلم عن الجموع التي تبعت يسوع، وعن المحتاجين إلى شفاء،

الجموع التي تبعت يسوع:

لم يتبع يسوع الكسالى ولا الساكنون في المدينة كمن هم في المجمع، ولا طالبو كرامات العالم، إنما من تبع يسوع هم الباحثون عن المسيح في البرِّيَّة، وبكلام آخر، من تبع يسوع هم أولئك الذين يبحثون عن معنى في حياتهم، ويريدون إجابات للسؤال الذي حيّر الإنسان منذ القدم، وهو ما معنى وجود الإنسان، وكيف يُشبع هذا الإنسان جوعه إلى الحقيقة؟ وهذا يأخذنا لنسأل أنفسنا، هل الإجابة التي نبحث عنها اليوم نجدها في يسوع؟ أم أننا نسأل أمراً مغايراً، وبالتالي من يُجيبنا هو من نبحث عنه، حتى ولو لم يكن الله؟

لقد تركت الجموع المدن وخرجت لتلتقي مع يسوع المنصرف إلى موضع خلاء منفردًا، ويسوع بدوره "قبلهم" وهذا كفيل بأن نفهم أنّ انغلاق القلب والعزلة عن البشرية ليس لهما موضع في الحياة مع الله، بل انفتاح القلب نحو الجميع، ولأجل الجميع.

عندما بدأ النهار يميل، أي عند المساء طلب التلاميذ من يسوع أن يصرف الجموع، ويسوع يرفض. يعبّر الكتاب المقدس عن الحياة مع الله على أنها يوم واحد، فيه أخطأ الإنسان تجاه الله، وفيه بادر الله تجاه الإنسان، ولكي لا يأتي المساء ويكون يومٌ آخر، فيه العلاقة منقطعة بين الله والإنسان، قام الله بدوره حيث أعطى الإنسان الخلاص. لذلك نرى معظم النصوص تتكلم عن هذه الفترة الزمنية من النهار، لتقول أن الله لا يسمح بأن يبتعد الإنسان عنه، وأيضاً أنه في آخر الزمان الكل يتمتع باللقاء مع الله، وهذا هو الملكوت الأبدي. فالمساء هنا هو آخر الزمان. 

المحتاجين إلى شفاء: 

كيف يمكن للمريض أن يذهب وراء يسوع؟ ربما نقول أن هناك أمراضاً لا تعيق الإنسان من السير. ولكن في الحقيقة الأمر مختلف بالنسبة إلى هذه المعجزة..!

مَن مِن البشر صحيحاً وغير مريض؟ من هو الذي لا يحتاج إلى شفاء؟ هذا ينقلنا لنفهم أنه ولو أن الرب يسوع يستطيع أن يشفي الجسم المعطوب، إلاّ أنّ الأولوية دائماً هي لشفاء الإنسان المعطوب بالخطيئة، ولكي يستطيع الإنسان أن يشترك مع الآخرين في النعيم الأبدي عليه أن يُشفى من الخطيئة، لذلك وقبل التمتع بالشراكة في الخبز، شفى يسوع من هم بحاجة إلى شفاء. هذا يأخذنا لنقول أن الحياة الحقيقية لا نجدها إلا في الله، والله وحده هو القادر على أن يعطي الإنسان معنى حياته وكل قيمته.

لم يقل النص أن الذين طلبوا الشفاء نالوه، وإنما من هم بحاجة إلى شفاء شفاهم، أي أن الفعل قام به يسوع كفعل وليس كردة فعل على طلب الإنسان، فلم يطلب الإنسان الخلاص، وإنما الله هو الذي بادر إلى الإنسان وخلصه. وهذا يُعلن أن الله محبة، ومحبته مجانية، إذ أن المبادرة والتحسس للآخر والانطلاق نحوه، دون أي مقابل منه، هي من جوهر المحبة.

إن العبارة الأخيرة في نص اليوم توضح النتائج التي توصل إليها الشعب الذي تبع يسوع، فهم أكلوا وشبعوا وزاد عنهم، ولعل عبارة زاد عنهم تدل على الوفرة وهذه دلالة على عدم النقص، فالله أعطى ذاته كلّها وليس جزءً منها، ولم تنقص محبة الله يوماً، وعليه نحن المرتبطون والمشاركون مع الله في حياته علينا ألا ننتقص من عطائنا لذواتنا، لأننا مدعوون على مثال الله، أن نحب بكمال المحبة، وكمال المحبة يستوجب عطاء الذات بالكامل.

إن عيش المحبة يستوجب القبول والعطاء. من جهة الله قَبِل الإنسان وأعطاه ذاته، ويبقى على الإنسان، أن يقبل الله، وهذا فعل الإيمان، وأن يعطيه ذاته، وهذا فعل مشاركة. 

لقد عبّر الإنجيل عن محبة الله بالقبول والعطاء، والإنسان مدعو لأن يتخذ هذا المبدأ لينعم بالعلاقة الحقيقية مع الله وأخيه الإنسان، فلا ينغلق على ذاته ولا يعيش بأنانيته، بل ينفتح على الآخر ليصبح وإياه واحداً بالمحبة. لذلك فلنقبل من الله عطية ذاته ولنعطه ذواتنا، حيث تأخذ المحبة معناها الأسمى والأكمل، وعندها يتحقق الملكوت الأبدي.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.