مبادرة فاشلة أم تجاوب فاشل رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (3: 1-15) يا إِخوَتِي، أَنَا، لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أُكَلِّمَكُم كَأُنَاسٍ رُوحَانيِّينَ بَلْ كَأُنَاسٍ جَسَدِيِّين، كَأَطْفَالٍ في المَسِيح. قَدْ غَذَوْتُكُم بِالحَليبِ لا بِالطَّعَام، لأَنَّكُم لَمْ تَكُونُوا بَعْدُ قَادِرِين، ولا حَتَّى الآنَ أَنْتُم قَادِرُون. فَأَنْتُم لا تَزَالُونَ أُنَاسًا جَسَدِيِّين: فَمَا دَامَ بَيْنَكُم حَسَدٌ وَخِصَام، أَفَلا تَكُونُونَ جَسَدِيِّين، وسُلُوكًا جَسَدِيًّا تَسْلُكُون؟ فإِذَا كَانَ أَحَدُكُم يَقُول: أَنَا لِبُولُس! وآخَر: أَنَا لأَبُلُّوس! أَفَلا تَكُونُونَ جَسَدِيِّين؟ فمَا هوَ أَبُلُّوس؟ ومَا هوَ بُولُس؟ هُمَا خَادِمَانِ آمَنْتُم عَلى أَيْدِيهِمَا، عَلى قَدْرِ مَا أَعْطَى الرَّبُّ كُلاًّ مِنْهُمَا. أَنَا غَرَسْتُ، وأَبُلُّوسُ سَقَى، ولكِنَّ اللهَ هُوَ الَّذي كَانَ يُنْمِي. فلا الغَارِسُ بِشَيءٍ ولا السَّاقِي، بَلِ ٱللهُ الَّذي يُنْمِي! لكِنَّ الغَارِسَ والسَّاقِي وَاحِد، وكُلٌّ مِنْهُمَا يَأْخُذُ أَجْرَهُ عَلى قَدْرِ تَعَبِهِ. فَنَحْنُ مُعَاوِنَانِ لله، وأَنْتُم حَقْلُ ٱللهِ وَبِنَاءُ ٱلله. وأَنَا بِنِعْمَةِ ٱللهِ الَّتي وُهِبَتْ لي، وَضَعْتُ الأَسَاسَ كَبَنَّاءٍ حَكِيم، لكِنَّ آخَرَ يَبْنِي عَلَيْه: فَلْيَنْظُرْ كُلُّ وَاحِدٍ كَيْفَ يَبْنِي عَلَيْه! فَمَا مِنْ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ أَسَاسًا آخَرَ غَيْرَ ٱلأَسَاسِ ٱلمَوْضُوع، وهُوَ يَسُوعُ المَسِيح. فَإِنْ بَنَى أَحَدٌ عَلى هذَا الأَسَاسِ ذَهَبًا، أَوْ فِضَّةً، أَوْ حِجَارَةً كَرِيْمَةً، أَوْ خَشَبًا، أَوْ تِبْنًا، أَوْ قَشًّا، فَعَمَلُ كُلِّ وَاحِدٍ سَيَكُونُ ظَاهِرًا، وَيَوْمُ الرَّبِّ سَيُبَيِّنُهُ، لأَنَّ يَومَ الرَّبِّ سَيُعْلَنُ بِالنَّار، والنَّارُ سَتَمْتَحِنُ مَا قِيمَةُ عَمَلِ كُلِّ وَاحِد. فَمَنْ يَبْنِي، ويَبْقَى عَمَلُهُ الَّذي بَنَاه، يَنَالُ أَجْرَهُ. ومَنِ ٱحْتَرَقَ عَمَلُهُ يَخْسَرُ أَجْرَهُ، أَمَّا هُوَ فَيَخْلُص، ولكِنْ كَمَنْ يَمُرُّ في النَّار. إنجيل القدّيس لوقا (14: 16-24) قَالَ الرَبُّ يَسُوعُ: «رَجُلٌ صَنَعَ عَشَاءً عَظِيمًا، وَدَعَا كَثِيرين. وسَاعَةَ العَشَاء، أَرْسَلَ عَبْدَهُ يَقُولُ لِلْمَدعُوِّين: تَعَالَوا، فَكُلُّ شَيءٍ مُهيَّأ! فَبَدَأَ الجَمِيعُ يَعْتَذِرُونَ عَلَى طَرِيقَةٍ وَاحِدَة. قَالَ لَهُ الأَوَّل: إِشْتَرَيْتُ حَقْلاً، وَأَنَا مُضْطَرٌّ أَنْ أَذْهَبَ لأَرَاه. أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْذِرَنِي! وقَالَ آخَر: إِشْتَرَيْتُ خَمْسَةَ فَدَادِين، وَأَنَا ذَاهِبٌ لأُجَرِّبَها. أَسْأَلُكَ أَنْ تَعْذِرَني! وَقالَ آخَر: تَزَوَّجْتُ ٱمْرَأَةً، وَلِذلِكَ لا أَقْدِرُ أَنْ أَجِيء. وَعادَ العَبْدُ وَأَخْبَرَ سَيِّدَهُ بِذلِكَ. فَغَضِبَ رَبُّ البَيْتِ وقَالَ لِعَبْدِهِ: أُخْرُجْ سَرِيعًا إِلى سَاحَاتِ المَدِينَةِ وَشَوارِعِها، وَأْتِ إِلى هُنَا بِالمَسَاكِينِ وَالمُقْعَدِينَ وَالعُرْجِ وَالعُمْيَان. فَقالَ العَبْد: يَا سَيِّد، لَقَدْ نُفِّذَ مَا أَمَرْتَ بِه، وَبَقِي أَيْضًا مَكَان. فَقَالَ السَيِّدُ لِلعَبْد: أُخْرُجْ إِلى الطُّرُقِ والسِّيَاجَات، وَأَجْبِرِ النَّاسَ عَلَى الدُّخُول، حَتَّى يَمْتَلِئَ بَيْتِي. فإِنِّي أَقُولُ لَكُم: لَنْ يَذُوقَ عَشَائِي أَحَدٌ مِنْ أُولئِكَ المَدْعُوِّين!». الموعظة إنجيل اليوم يلخص، إلى أقصى حد، كل شيء، كل ما قيل وما سيقال، لأنه ببساطة، يعرض علينا مبادرة الله و تجاوب الإنسان مع هذه المبادرة. بالبداية دعونا نتفق على أن هذا المثل في إنجيل القديس لوقا، و بواسطته، قد تم تصحيحه ليناسب رسالة يسوع ككل. فهو لا يُنسب إلى يسوع مباشرة، حتى ولو أن سياق الكلام والتقليد يَجُرّانِنا لنَنسبه إلى يسوع. ما يهمنا هو الخط الكبير لمسيرة يسوع - مبادرة الله - التي، نستطيع أن نقرأها اليوم على ضوء حياتنا، مثلما استطاع لوقا الإنجيلي أو غيره من آباء الكنيسة أن يقرؤها على ضوء حياتهم وثقافتهم و خلفية انتمائهم الحضاري والمجتمعي. ولكي لا نقع في فخ عدم التصديق أو اعتبار الإنجيل منحولاً، يجب علينا أن نفهم أن الكتاب المقدس ككل هو - موحى به - وهذا لا يعني أبداً أنه - مُنزل - بل على العكس، إنه يعبّر عن مبادرة الله بطريقة فهم الإنسان لها، ومن خلال اختباره البشري الشخصي لهذه المبادرة. قد قلت ما قلت لأنبّه من خطأ قد نقع فيه في تفسيرنا لهذا النص، فلنأخذ مثلاً كلمة (عبد) التي لا تتوافق مع صلاة الأبانا، إذ كيف نكون عبيداً لأبينا السماوي؟، أو كيف يمكننا التوفيق بين يسوع الابن الوحيد و يسوع العبد؟ وأيضاً يمكننا أن ندقق في المثل فلا نرى السبب الأساسي لإقامة العشاء، ولا يذكر النص من هم المدعوون بشكل صريح ولا ما هي العلاقة التي تربط هذا الإنسان، الذي صنع العشاء، بالمدعوين، ويعبّر المثل عن غضب سيد الدعوة بسبب عدم تلبية المدعوين دعوته، وهنا نستطيع أن نسأل عن الحرية التي بها، نستطيع أن نقبل أو أن نرفض أي شيء.. الخ كل هذا لا يمنعنا من أن نرى أن هذا المثل يُلخص كل ما جاء في الكتاب المقدس، ويدلنا لنفهم المشكلة الحقيقية وراء عدم تلبية هؤلاء المدعويين لهذه الدعوة، ويضعنا أمام فهم مبادرة الله للإنسان. هناك تفسيران نستطيع أن نلقي نظرة عليهما: أولاً: التفسير الصبياني، والمقصود بالصبياني هو عدم النضج الكافي في التفسير، وهو أن نطبق ما هو إنساني بحت، على الله، فيُقرأ المثل من وجهة نظر بشرية، كأن نقول أن المثل يُخبرنا أن هناك رجلاً صنع عشاءً، هو ليس ملكاً، وهو ليس الله، هو إنسان، وبما أن عنده عبيد يخدمونه ويسهرون على تلبية متطلباته، فيبدو أنه غني. وعلى ما يبدو أيضاً أن هذا الإنسان أناني جداً، أحس بالوحدة فقام وصنع مأدبة دعا إليها المعارف ليتسلى وعندما لم يُلبّوا الدعوة، غضب، وأمر عبده بإدخال الغير معروفين والأغراب ليتناولوا عشاءه، وبالتالي حكم على كل المدعويين بأنهم لن يذوقوا عشاءه. إن هذا التفسير يضعنا أمام رجل اتخذ مبادرة، ففشل، ومن ثم، تجاوز فشله، فهذا ما نراه في روايات البشر اليومية عندما يختبرون فشلاً ما في حياتهم ومن ثم يحاولون، بشتى الطرق، أكانت مستقيمة أم معوجة، أن يتجاوزوا فشلهم ليحققوا ما هم يريدونه. وإن تطبيق هذا الكلام أيضاً على الله وعلاقته باليهود (المدعويين) هو كلام صبياني، لأنه يُظهر أن تواجد الأمم على مائدة الله هو نتيجة غضب الله من اليهود لا أكثر، وبالتالي يضع الله في خانة الانتقائية والمزاجية ويأتي الخلاص كَرَدّة فعل من الله على عدم تجاوب الإنسان معه، وهذا ما من شأنه أن ينافي محبة الله المجانية والغير مشروطة للإنسان وكل إنسان. ثانياً: التفسير السياقي، وهو أن نفهم إطار النص والسياق الكتابي كوحدة متجانسة في فهم مسيرة يسوع كلها. إذ إن الكتاب المقدس يعتبر أن العلاقة بين الله والإنسان كانت على مستوى واحد ( غني يدعو من هم من نفس طبقته )، وعندما تدهورت هذه العلاقة بسبب تلبية الإنسان لاهتماماته الشخصية، أراد الله أن يبادر من جديد ليعيد الإنسان إلى مستواه الطبيعي، هذا ما نجده في التعابير الكتابية بوجوه وأشكال مختلفة. ولا بدّ هنا من التنويه إلى ما سبق ذكره عن كتّاب الأسفار بأنهم وضعوا خبرتهم الشخصية والحياتية فيما كتبوه، وليس بالضرورة أن تكون حقيقة الله على هذا النحو، ولكن كل النصوص، تقريباً، تتفق وتدل على أن الحدث الأهم والأجدر بالظهور هو حدث يسوع، فهو مبادرة الله الأساسية، إذ بسببه يمتلئ البيت الفارغ، هذا ما يدلنا على الزمن الحاضر الذي يريد أن يروي عنه الراوي في هذا المثل، فهو زمن مسيحاني. فبين الصراع اليهودي اليهودي واليهودي الوثني، يظهر الحاضر المسيحاني بين مؤيد أو ملبي للدعوة وبين رافض أو مشغول عن الدعوة. وهنا لا يجب الحديث عن امتيازات للشعب اليهودي مقارنة بالشعب الوثني، لأن رسالة يسوع، وإن كان منبتها يهودياً، فإنها رسالة شاملة تشمل الإنسان، أياً كان، فهذا ما يُخبرنا به سياق الأحداث الكتابية في مسيرة تطورها من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. إن النظر إلى رسالة يسوع بشكل عام يجعلنا ندرك أن المدعوين هم بالحقيقة مشاركين، وهم مشاركون بمعنى أنه قد تم قبولهم بالمشاركة، أي أن الباب مفتوح أمام المشاركة، وهذه إحدى أهم ميزات المحبة. بقي أن نفهم بماذا هم مشاركون؟ بما أن الدعوة هي دعوة إلى مائدة عشاء، فهذا يسهّل علينا مهمة فهم المشاركة؛ فإن تقاسم و تناول الطعام الواحد هو ما يجعل جميع المشاركين واحداً، وبمعنى آخر إن صح التعبير متحدين ورمز وحدتهم هو الطعام الواحد على المائدة الواحدة، وهذا يذكرنا بالعشاء الفصحي الأخير حين قدم يسوع ذاته مأكلاً ومشرباً لرسله، ليكون هو علامة وحدتهم. وهذا ما يجعلنا نفهم كلمات يسوع في صلاته الكهنوتية: " ليكون الجميع واحداً، كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك، ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني" (يوحنا 17 : 21). هذا هو السياق الذي تحدثت عنه، إذ إننا نرى وحدة كتابية تدلنا مباشرة إلى استخلاص ماهية وهدف الله في علاقته مع الإنسان، فالوحدة لا تتم إلاّ بالمشاركة والمشاركة تتم بالمحبة. مما تقدم نستخلص أن زمن العنصرة الطقسي الحاضر، الذي تضعنا الكنيسة فيه ونعيشه، هو حدث موحّد للجموع المبعثرة والغير متحدة فيما بينها، لذلك تأتي القراءات في القداس الإلهي موافقة لمفاعيل هذا الحدث، وعليه فإنه بات من الضروري على المدعوين - المشاركين في وليمة الحمل، أن يتحدوا بعضهم ببعض من خلال جسد المسيح الواحد الذي يتقاسمونه فيما بينهم. إن هذه الدعوة إلى المشاركة والوحدة هي شاملة، تخص كل إنسان، بأي زمن، وعدم تجاوب الإنسان لا يجعل من مبادرة الله فاشلة، بل يجعل تجاوب الإنسان مع هذه المبادرة هو الفاشل، فإن الإنجيل يُخبرنا بأن الله ينتظر ويترقب عودة ابنه (لوقا 15)، وبقي أن يعود الابن إلى أبيه بعد خبرته الفاشلة التي اختبرها حين ابتعد عنه. إن المبادرة، بشكل عام، فيها تخطي الذات وقبول الآخر، فالله بادر الإنسان وقبله، وبقي على الإنسان أن يتخطى ويبادر. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.الأحد الثاني بعد العنصرة