رسالة القدّيس بولس الثانية إلى أهل قورنتس (4: 1-6) يا إِخوَتِي، مَا دَامَتْ لَنَا هذِهِ الخِدْمَةُ بِرَحْمَةٍ مِنَ ٱلله، لا تَضْعُفُ عَزِيْمَتُنَا. ولكِنَّنَا نَنْبِذُ الأَسَالِيبَ الخَفِيَّةَ المُخْجِلَة، ولا نَسْلُكُ طَرِيقَ المَكْر، ولا نُزَوِّرُ كَلِمَةَ ٱلله، بَلْ إِنَّنَا بإِظْهَارِ الحَقِّ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا تُجَاهَ ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَان، أَمَامَ ٱلله. وإِنْ كَانَ إِنْجِيلُنَا لا يَزَالُ مَحْجُوبًا، فإِنَّمَا هوَ مَحْجُوبٌ عَنِ الهَالِكِين، غَيرِ المُؤْمِنِينَ الَّذينَ أَعْمَى إِلهُ هذَا العَالَمِ بَصَائِرَهُم، لِئَلاَّ يُبْصِرُوا ضِيَاءَ إِنْجِيلِ مَجْدِ المَسِيح، الَّذي هُوَ صُورَةُ ٱلله. فَنَحْنُ لا نُبَشِّرُ بِأَنْفُسِنَا، بَلْ نُبَشِّرُ بِيَسُوعَ المَسِيحِ رَبًّا، وبِأَنْفُسِنَا عَبِيدًا لَكُم مِنْ أَجْلِ يَسُوع؛ لأَنَّ ٱللهَ الَّذي قَال: «لِيُشْرِقْ مِنَ الظُّلْمَةِ نُور!»، هُوَ الَّذي أَشْرَقَ في قُلُوبِنَا، لِنَسْتَنِيرَ فَنَعْرِفَ مَجْدَ ٱللهِ المُتَجَلِّيَ في وَجْهِ المَسِيح. إنجيل القدّيس يوحنّا (5: 31-47) قالَ الربُّ يَسوعُ (لليهود): «لَوْ كُنْتُ أَنَا أَشْهَدُ لِنَفْسِي لَمَا كَانَتْ شَهَادَتِي مَقْبُولَة. ولكِنَّ آخَرَ يَشْهَدُ لِي، وأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي يَشْهَدُهَا لِي صَادِقَة. أَنْتُم أَرْسَلْتُم إِلى يُوحَنَّا فَشَهِدَ لِلحَقّ. وأَنَا لا أَسْتَمِدُّ الشَّهَادَةَ مِنْ إِنْسَان، ولكِنْ مِنْ أَجْلِ خَلاصِكُم أَقُولُ هذَا: كَانَ يُوحَنَّا السِّرَاجَ المُوقَدَ السَّاطِع، وأَنْتُم شِئْتُم أَنْ تَبْتَهِجُوا بِنُورِهِ سَاعَة. أَمَّا أَنَا فَلِي شَهَادَةٌ أَعْظَمُ مِنْ شَهَادَةِ يُوحَنَّا: أَلأَعْمَالُ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ أَنْ أُتَمِّمَهَا، تِلْكَ الأَعْمَالُ نَفْسُهَا الَّتِي أَعْمَلُهَا، تَشْهَدُ أَنَّ الآبَ أَرْسَلَنِي. والآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ شَهِدَ لِي. وأَنْتُم مَا سَمِعْتُم يَومًا صَوتَهُ، ولا رَأَيْتُم مُحَيَّاه، ولا جَعَلْتُم كَلِمَتَهُ رَاسِخَةً فِيكُم، لأَنَّكُم لا تُؤمِنُونَ بِمَنْ أَرْسَلَهُ الآب. إِنَّكُم تَبْحَثُونَ في الكُتُب، لأَنَّكُم تَحْسَبُونَ لَكُم فِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّة، وهِيَ الَّتي تَشْهَدُ لِي. ولا تُريدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِليَّ لِتَكُونَ لَكُمُ الحَيَاة. أَنَا لا أَسْتَمِدُّ مَجْدًا مِنَ النَّاس. وأَنَا أَعْرِفُكُم، فَلَيْسَ فِيكُم مَحَبَّةُ الله. أَنَا بِٱسْمِ أَبي أَتَيْت، ولا تَقْبَلُونَنِي. وإِنْ أَتَى آخَرُ بِٱسْمِ نَفْسِهِ، فَإِيَّاهُ تَقْبَلُون. كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا، وأَنْتُم تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُم مِنْ بَعْض، والمَجْدَ الَّذِي مِنَ اللهِ الأَوْحَدِ لا تَطْلُبُون؟ لا تَحْسَبُوا أَنِيِّ سَأَشْكُوكُم أَنَا إِلى الآب، بَلْ لَكُم مَنْ يَشْكُوكُم، هُوَ مُوسَى الَّذي جَعَلْتُم فِيهِ رَجَاءَكُم. فَلَو كُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِمُوسَى لَكُنْتُم تُؤْمِنُونَ بِي، لأَنَّهُ هُوَ كَتَبَ عنِّي. فَإِنْ كُنْتُم لا تُؤْمِنُونَ بِمَا هُوَ كَتَب، فَكَيْفَ تُؤْمِنُونَ بِكَلامِي؟». الموعظة إنجيل اليوم هو تكملة لرد يسوع على اعتراض اليهود عليه، لأنه شفى مريضاً يوم السبت في بيت حِسْدَا، وكان يقول أنّ الله هو أبوه: "فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ، لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ، بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللهِ." (يو 5: 18). وفي رده، أكد يسوع أنه لا يقبل شهادة من إنسان، بل الآب الذي أرسله هو الذي يشهد له. فيسوع يحدّثنا عن الله "الآب الذي أرسلني". ويشهد يسوع أنه نال من الآب كل شيء: اسمه، مجده، العمل الذي أعطي له أن يعمله. وأعطى الآب الابن أن يمتلك الحياة في ذاته (يو 5: 26). وهذه الحياة الحميمة والعميقة التي توجد بين الآب والابن لا تنتهي في علاقة من الأنانية بين اثنين ينغلق الواحد على الآخر. بل هي تتوجّه إلى الخارج: فالله الآب سلّم إلى ابنه كل هؤلاء المؤمنين (يو 6: 37، 39) لئلاّ يهلك أحد منهم. إنهم كخراف أوكل بهم الراعي. هم يعيشون في حماية الآب والابن "لأني أنا والآب واحد" (يو 10: 30). يسوع هو عطية الآب للبشر (يو 6: 33). والتجسّد يعرّفنا أن الله ويسوع متحدان اتحاداً وثيقاً في علاقة فريدة هي علاقة الآب بالابن. وأن هذه المحبة تفيض على البشر، فتكشف هوية الله الحقيقية: "هكذا أحبّ الله العالم حتى وَهَبَ ابنه الوحيد" (يو 3: 16). إذاً، بنى يسوع حياته على شهادة الآب عنه، وبُنيَت الكنيسة على شهادة الرسل الذين رأوا وسمعوا يسوع، فالشهادة تستوجب الرؤية لا السمع فقط. هذا ما نجده في كل النواحي التي تتطلب شهادة شهود في قضية ما، فالمطلوب من الشاهد أن يشهد لما رأى، وطبعاً تتضمن الرؤية سماع، أما السماع وحده لا يكفي، ولا يفي بالغرض المطلوب، لأنه يمكن أن يكون قيل عن قال، لهذا نرى يسوع يُعلن لليهود: "الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي هُوَ شَهِدَ لِي. وأَنْتُم مَا سَمِعْتُم يَومًا صَوتَهُ، ولا رَأَيْتُم مُحَيَّاه". فإذا كانت الشهادة تعتمد على الرؤية والسمع، فكيف يمكن لنا نحن بعد أكثر من ألفي عام، أن نقول أننا شهود يسوع المسيح المخلص؟ وكيف نقرأ تلك الكلمات التي نقولها في عيد الفصح وهي: "المسيح قام ونحن شهود على ذلك"؟ لنكن منطقيين و واقعيين، الشهادة تتطلب أن نرى ما نشهد عليه أو له، ونحن لم نرى يسوع. من هنا يجب أن نفهم تسميتنا بأننا "جماعة مؤمنين"، أجل نحن جماعة إيمان، نؤمن بالسمع بناءً على شهادة الذين رأوا من ألفي عام، ومن المؤكد أن هذا الإيمان هو الذروة، وهو مُطوّب "طوبى للذين آمنوا ولم يروا" هذا ما قاله يسوع للقديس توما الذي طلب أن يرى ويضع يده في جنبه. ولذلك علينا اليوم أن نبحث في ماهية شهادتنا، أي مضمون شهادتنا ما هو؟. شهادتنا اليوم تعتمد على السلوك بحسب الإيمان، فتكون أعمالنا هي الشاهد على إيماننا بيسوع المسيح، وهنا نكمّل مسيرة رسالته في العالم، إن موضوع الشهادة هذا هو من دون أي شك ذو أهمية أساسية بالنسبة لعصرنا. فالإيمان المُعلَن بالقول والتعليم يبقى عقيمًا إذا لم تصحبه شهادة الحياة. في الواقع، يتأثّر مجتمعنا بالشهادة النابعة من إيمان ملتزم، أكثر من تأثّره بالمواعظ البليغة؛ فالشاهد أكثر فاعلية من الواعظ. لقد وعى القديس بولس أهمية هذه الشهادة التي تعتمد على تغيير الحياة أكثر من أن نقول فقط ما رأينا، فها هو اليوم في رسالته الثانية إلى أهل قورنتس يُطالب المؤمنين بأن يكونوا رافضين "الأَسَالِيبَ الخَفِيَّةَ المُخْجِلَة، ولا نَسْلُكُ طَرِيقَ المَكْر، ولا نُزَوِّرُ كَلِمَةَ ٱلله، بَلْ إِنَّنَا بإِظْهَارِ الحَقِّ نُظْهِرُ أَنْفُسَنَا تُجَاهَ ضَمِيرِ كُلِّ إِنْسَان، أَمَامَ ٱلله". فالشهادة التي نشهد بها اليوم، هي مسلك حياة، والهدف من الشهادة هو الإيمان، هو التصديق، فكيف يمكن للناس الذين ينظرون أعمالنا أن يصدقوا ما نؤمن به، إن لم تكن أعمالنا- شهادتنا، دالة على عمق رسالة المسيح في العالم؟ هدف شهادتنا اليوم هو إظهار وجه الآب، الذي ظهر في يسوع المسيح، لكل إنسان، هذه هي دعوتنا، وهذه هي رسالتنا. بفضل الشهادة التي نؤدّيها اليوم، يجد الإنسانُ الإنجيلَ أمامه، ونضع الله في متناول كل إنسان، كواقع متجسد في خلائق من لحم ودم. نحن صلة الوصل بين زمن يسوع و زمن الرسل و زمن الكنيسة. إننا نُؤَمّنْ الاستمرارية بين جماعة ما بعد الفصح، أي الرسل، إلى يومنا هذا وإلى الأبد، عِبر الأجيال القادمة. هكذا ترتكز المسيحية، منذ ألفي سنة، على شهادة الرسل، فضلاً عن ارتكازها على الوحي الذي أنجزه يسوع. فلو أن المسيح مات وقام من دون شهود، ولو أن هؤلاء الشهود لم يعلنوا الحقيقة، لما كانت البشرى السعيدة بلغتنا، ولولا شهادة حياتنا الإيمانية المقرونة بالعمل لما وصلت رسالة المسيح إلى الإنسان، ولن تصل هذه الرسالة إنْ لم نشهد شهادة الإيمان الحق، بالقول والفعل. إن شهادة إيماننا بيسوع المسيح هي أمانة كبيرة، تتخطى محدودية ظروفنا اليومية، وتتعدى الواقع الذي نعيشه، بل هي تنقلنا إلى واقع أفضل بكثير، إن علّم وفعل كل واحد منا الحبّ في حياته. إن أفضل تعبير وأجمل خبر يمكن أن ننقله للآخرين هو أنهم محبوبون، فكل ما قام به يسوع هو إظهار تلك العلاقة مع الآب، كمُحِب ومحبوب. فليُحِبَ كل واحد منا وكل واحدة منا الإنسان الذي مات المسيح لأجله، إنها أفضل شهادة نقوم بها في مجتمعنا، حيث هنا يتحقق ملكوت الله، "بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حُبّ بعضكم لبعض" (يو 13 : 35). هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.شهود الحبّ
الأحد الثالث بعد الدنح