أزمة ثقة 

الأحد الثالث بعد الصليب 

رسالة القدّيس بولس إلى أهل فيلبّي (1: 12-21) 

أُرِيدُ أَنْ تَعْلَمُوا، أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنَّ مَا حَدَثَ لي قَد أَدَّى بِالحَرِيِّ إِلى نَجَاحِ الإِنْجِيل،

حتَّى إِنَّ قُيُودِي مِن أَجْلِ المَسِيحِ صَارَتْ مَشْهُورَةً في دَارِ الوِلايَةِ كُلِّهَا، وفي كُلِّ مَكَانٍ آخَر.

وإِنَّ أَكْثَرَ الإِخْوَةِ قَدْ وَثِقُوا بالرَّبِّ مِن خِلالِ قُيُودِي، فَٱزْدَادُوا جُرْأَةً على النُّطْقِ بِكَلِمَةِ اللهِ بِغَيْرِ خَوْف.

فَٱلبَعْضُ يُبَشِّرُونَ بِالمَسيحِ عَن حَسَدٍ وخِصَام، والبَعضُ بنِيَّةٍ طَيِّبَة.

هؤُلاءِ يُبَشِّرُونَ بِمَحَبَّة، عَالِمِينَ أَنِّي أُقِمْتُ لِلدِّفَاعِ عَنِ الإِنْجِيل،

وأُولئِكَ يُبَشِّرُونَ بِالمَسيحِ عَنْ خِصَامٍ وبِغَيرِ إِخْلاص، وهُم يَظُنُّونَ أَنَّهُم يَزِيدُونَ قُيُودِي ضِيقًا.

فمَا هَمَّنِي؟ حَسْبِي أَنَّ المَسِيحَ يُبَشَّرُ بِهِ، في كُلِّ حَال، بِغَرَضٍ كانَ أَمْ بِحَقّ: وبِهذَا أَنا أَفْرَح، وسَأَفْرَحُ أَيْضًا.

فأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَؤُولُ إِلى خَلاصِي، بِفَضْلِ صَلاتِكُم ومَعُونَةِ رُوحِ يَسُوعَ المَسِيح.

وإِنِّي أَنْتَظِرُ وأَرْجُو أَنْ لا أَخْزَى في شَيء، بَلْ أَنْ أَتَصَرَّفَ بِكُلِّ جُرْأَة، الآنَ كمَا في كُلِّ حِين، لِكَي يُعَظَّمَ المَسِيحُ في جَسَدِي بِٱلحَيَاةِ أَو بِالمَوت.

فَٱلحَياةُ لي هِيَ المَسِيح، والمَوْتُ رِبْحٌ لِي.

إنجيل القدّيس لوقا (16: 1-12)

قالَ الربُّ يَسوع لِتَلامِيذِهِ: «كانَ رَجُلٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيل. فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ أَنَّهُ يُبَدِّدُ مُقْتَنَيَاتِهِ.

فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذي أَسْمَعُهُ عَنْكَ؟ أَدِّ حِسَابَ وِكَالَتِكَ، فَلا يُمْكِنُكَ بَعْدَ اليَوْمِ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً.

فَقَالَ الوَكِيلُ في نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَل؟ لأَنَّ سَيِّدي يَنْزِعُ عَنِّي الوِكَالة، وأَنَا لا أَقْوَى عَلَى الفِلاَحَة، وَأَخْجَلُ أَنْ أَسْتَعْطي!

قَدْ عَرَفْتُ مَاذَا أَفْعَل، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ مِنَ الوِكَالَةِ يَقْبَلُنِي النَّاسُ في بُيُوتِهِم.

فَدَعَا مَدْيُونِي سَيِّدِهِ واحِدًا فَوَاحِدًا وَقَالَ لِلأَوَّل: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدي؟

فَقَال: مِئَةُ بَرْمِيلٍ مِنَ الزَّيْت. قَالَ لَهُ الوَكيل: إِلَيْكَ صَكَّكَ! إِجْلِسْ حَالاً وٱكْتُبْ: خَمْسِين.

ثُمَّ قَالَ لآخَر: وَأَنْتَ، كَمْ عَلَيْك؟ فَقَال: مِئَةُ كِيسٍ مِنَ القَمْح. فَقالَ لَهُ الوَكيل: إِلَيْكَ صَكَّكَ! وٱكْتُبْ: ثَمَانِين.

فَمَدَحَ السَّيِّدُ الوَكِيلَ الخَائِن، لأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِحِكْمَة. فَإِنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَكْثَرُ حِكْمَةً مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ في تَعَامُلِهِم مَعَ جِيلِهِم.

وَأَنَا أَقُولُ لَكُم: إِصْنَعُوا لَكُم أَصْدِقاءَ بِمَالِ الظُلم، حَتَّى إِذا نَفَد، قَبِلَكُمُ الأَصْدِقاءُ في المَظَالِّ الأَبَدِيَّة.

أَلأَمِينُ في القَلِيلِ أَمينٌ في الكَثِير. والخَائِنُ في القَلِيلِ خَائِنٌ أَيْضًا في الكَثير.

إِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ في المَالِ الخَائِن، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُم عَلَى الخَيْرِ الحَقِيقيّ؟

وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ في مَا لَيْسَ لَكُم، فَمَنْ يُعْطِيكُم مَا هُوَ لَكُم؟

الموعظة

مثل الوكيل الخائن أو ما نسميه أيضاً مثل وكيل الظلم، يُمثّل العلاقة بين الله والإنسان، فيفترض أن الله هو السيد والإنسان هو وكيله في هذه الأرض. وعندما بدّد الإنسان "مال سيده"، وأُحب أن أقولها هكذا: "ما لسيده"، أراد السيد - الله، أن يعزل الوكيل - الإنسان من وكالته. 

والسؤال هنا ما الذي دعا أو يدعو الإنسان لتبديد ما لله؟

إن تمعنّا قليلاً في حياتنا، نرى أننا نعيش أزمة ثقة. لا نثق بالآخرين، لا نثق بالله، وخاصةً، نحن لا نثق بأنفسنا.

ما يجعلنا نعيش أزمة ثقة، هو في الحقيقة خوفنا من فقدان الاستقرار، وبالأكثر، أن نخسر حياةً، أقنعتنا الحياة الاجتماعية أنها هي الحياة التي تستحق أن تُعاش، بيد أننا لم نفكر في أنّ الحياة الحقيقية هي في إدراك من نكون على وجه اليقين. 

وإن كان الخوف هو ما يُفقدنا الثقة بذاتنا وبالله والآخرين، فهذا يعني أننا لا نؤمن، فمن يؤمن لا يخاف سوى من ألّا يؤمن، أي يخاف أن يفقد إيمانه.

أما الإنسان، فهو لا يخاف من فقدانه لإيمانه، هذا لا يهم، يقول هذا ويتمتم: الله غفور رحيم. وإنما يخاف الإنسان من أن يعيش فقيراً جائعاً وعرياناً، وأن يكون على هامش الحياة، أليس المجتمع من يقول: "معك قرش بتسوى قرش"..؟

لا أعرف على وجه التحديد، من المسؤول عن إقناع البشرية بأشكال الحياة البشعة والمزيفة التي وصلنا إليها.

دوائر المؤسسات العامة مليئة بالفاسدين.. الذين ينهبون مال الناس، فيضيع ما للناس من كرامة وحق بالعيش الكريم.. أصبحنا نرى كل شيء بعينٍ أخرى، مختلفة عن القصد الحقيقي، مختلفة عن واقع أننا نحن "ما لله"، ونسينا أن نعطي ما لقيصر لقيصر وما لله لله.

حتى الحب اختلف..!! كان الحب يستولي عليه الحياء، فيبدأ بنظرة فابتسامة فسلام فموعد فلقاء فقبلة فعناق ومن ثم خطبة فزواج فخطة جيدة لبناء عائلة ومن ثم بناء مجتمع جيد.. أما اليوم فيبدأ الحب من آخره بحبوب منع الحمل..ومن ثم يسأل الواحد الآخر عن اسمه.. !!

وأصبح الزواج أيضاً مختلاً، فترى ابن 80 سنة يتزوج بنت 25 سنة، فلم يعد الزواج لتأسيس عائلة هو الهدف، بل أن يجلب المرء (ممرضة) تُنعش شيخوخته، ويتسامر معها ويدردش دردشة ما قبل النوم.

أصبحت المخدرات لطلاب المدارس، فترى الطفل يبدأ بالتدخين وهو في الابتدائية، ويستنشق الأنواع الرخيصة و السهل الحصول عليها.. هناك من آراه الحياة بهذا الشكل..

وطلاب الجامعة اتخذوا اسلوباً أكثر تفنناً، فليس العلم هو الهدف، ليست المكتبة ما يغني فكرهم، بل المطاعم ومشاريع الأكل والشرب في النوادي، فضاع المستقبل وضاع المجتمع وضاعت الحياة..

بنينا المجتمع على أساس المذاهب والأديان والأحزاب والقوميات، وضاعت الحقيقة بين هؤلاء كلهم، فصار أصحاب المذهب الواحد والدين الواحد والحزب الواحد والقومية الواحدة، يقتلون ويقاتلون وينافسون من هم من نفس اتجاههم.. يرفعون نفس الرايات ويقتل بعضهم بعضاً..

كل ذلك وأكثر يدّل على أننا في أزمة ثقة وضياع هوية.. فلا أحد يؤمن بما يقول ولا أحد يعمل بما يؤمن..

هكذا هو وكيل الظلم في نص إنجيل اليوم، لم يقنع بالاستقرار المُحاط به وهو تحت كنف سيده، لم يكتفِ بأنه وكيلاً، يريد أن يُصبح سيداً وكل ذلك على حساب سيده، فهو استخدم مال سيده ليحقق لنفسه أرباحاً ظنّ بها أنها من حقه وأنها تساعده في تأمين مستقبله.

إن استخدام مال هذا العالم بحكمة يجعلنا نحمل أداةً قوية، على أن هذه الحكمة يجب أن تصبّ في حكمة الله. لا يجب علينا التعلق بالمال ولا بالشهرة ولا بحب هذا العالم، كلها وسائل مزيفة، فهي تعدنا بما لا تستطيع أن تحققه لنا، وبالتالي ثقتنا بها كمن يثق بالعقرب أو الحية، فإننا نستطيع أن نستخدم سم العقرب والحية لأغراض طبية، إلا أنه لا يمكننا أن نثق بهم وأن نبني علاقة جيدة معهم.

لذلك علينا ألّا نخدع أنفسنا، فحصولنا على ترف الحياة وملذاتها لا يعني أننا على ما يرام، إننا ننخدع بالشكل الحياتي التي تؤمنه، لكن علينا أن نكون حكماء ونتجنب أن ننخدع، فهكذا خدعت الحية حواء وآدم، فهي زعزعت الثقة بأنفسهم، وجعلتهم يطلبون تأليه ذواتهم بعيداً عن الله. 

يجب أن نعرف أننا أبناء الله، هذه هي حقيقتنا، وابن الله له ما لله، أي أن اعتبار أنفسنا أجراء أو عبيداً لله كفيل بأن يُبعدنا عن هويتنا، وبالتالي نفتح الباب أمام الطمع والجشع والخوف ليستولوا على أنفسنا.  

أن نؤمن بالله يعني أن نثق به، ونثق بحقيقتنا، فنعمل على بناء ما هو لله أبينا، لا على تبديده. يُذكرني هذا بكلام الرب يسوع عندما اتهمه الفريسيون بإنه بعلزبوب، قال لهم: "كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تَخْرَبُ، وَبَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى بَيْتٍ يَسْقُطُ. [...]. مَنْ لَيْسَ مَعِي فَهُوَ عَلَيَّ، وَمَنْ لاَ يَجْمَعُ مَعِي فَهُوَ يُبَدّد." (لوقا 11: 17-23). لذلك علينا أن نعمل لصالح عمل الله الذي هو في النهاية عملنا نحن، فنحن نبني بيتنا الأبدي.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.