النسيان الذاتي 

الأحد السادس بعد العنصرة 


رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (5: 6-13) 

لا يَحْسُنُ بِكُم أَنْ تَفْتَخِرُوا! أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَمِيرِ يُخَمِّرُ العَجْنَةَ كُلَّهَا؟

طَهِّرُوا أَنْفُسَكُم مِنَ الخَمِيرِ العَتِيق، لِتَكُونُوا عَجْنَةً جَدِيدَة. فأَنْتُم فَطِيرٌ لا خَمِيرَ فيكُم، لأَنَّ حَمَلَ فِصْحِنَا قَدْ ذُبِحَ، وهُوَ المَسِيح!

إِذًا فَلْنُعَيِّدْ لا بِالخَميرِ العَتيق، ولا بِخَميرِ السُّوءِ والشَّرّ، بَل بِفَطيرِ الحَقِّ والإِخْلاص.

كَتَبْتُ إِلَيْكُم في الرِّسَالَةِ أَلاَّ تُخَالِطُوا الفُجَّار،

ولَسْتُ أَعْنِي عَلى الإِطْلاقِ فُجَّارَ هذَا العَالَم، أَوِ الطَمَّاعِينَ والخَاطِفين، أَو عَابِدِي الأَوثَان، وإِلاَّ لَوَجَبَ عَلَيْكُم أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ العَالَم.

بَلْ كَتَبْتُ إِلَيْكُم أَلاَّ تُخَالِطُوا مَنْ يُدْعَى أَخًا وهُوَ فَاجِر، أَو طَمَّاع، أَو عَابِدُ أَوثَان، أَو شَتَّام، أَو سِكِّير، أَو خَاطِف. فَمِثْلُ هذَا لا تُخَالِطُوه، حَتَّى ولا تُؤَاكِلُوه!

فمَا لي أَدِينُ الَّذِينَ هُم في خَارِجِ الجَمَاعَة؟ أَمَا عَلَيْكُم بالأَحْرَى أَنْ تَدينُوا الَّذِينَ في دَاخِلِهَا؟

أَمَّا الَّذِينَ هُم في خَارِجِ الجَمَاعَةِ فاللهُ يَدينُهُم، كَمَا هُوَ مَكْتُوب: «إِسْتَأْصِلُوا الشِّرِّيرَ مِنْ بَيْنِكُم!».

إنجيل القدّيس مرقس (10: 35-45)

دَنَا مِنْ يَسُوعَ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا، ٱبْنَا زَبَدَى ، وقَالا لَهُ: «يَا مُعَلِّم، نُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ لَنَا كُلَّ ما نَسْأَلُكَ».

فقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تُرِيدَانِ أَنْ أَصْنَعَ لَكُمَا؟».

قالا لَهُ: «أَعْطِنَا أَنْ نَجْلِسَ في مَجْدِكَ، واحِدٌ عَن يَمِينِكَ، ووَاحِدٌ عَنْ يَسَارِكَ».

فقَالَ لَهُمَا يَسُوع: «إِنَّكُمَا لا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَان: هَلْ تَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الكَأْسَ الَّتي أَشْرَبُها أَنَا؟ أَو أَنْ تَتَعَمَّدَا بِٱلمَعْمُودِيَّةِ الَّتي أَتَعَمَّدُ بِهَا أَنَا؟».

قالا لَهُ: «نَسْتَطِيع». فَقَالَ لَهُمَا يَسُوع: «أَلْكَأْسُ الَّتي أَنَا أَشْرَبُها سَتَشْرَبَانِها، والمَعْمُودِيَّةُ الَّتي أَنَا أَتَعَمَّدُ بِهَا ستَتَعَمَّدَانِ بِهَا.

أَمَّا الجُلُوسُ عَنْ يَمِينِي أَوْ عَنْ يَسَارِي، فلَيْسَ لِي أَنْ أَمْنَحَهُ إِلاَّ لِلَّذينَ أُعِدَّ لَهُم».

ولَمَّا سَمِعَ العَشَرَةُ الآخَرُون، بَدَأُوا يَغْتَاظُونَ مِنْ يَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا.

فدَعَاهُم يَسُوعُ إِلَيْهِ وقَالَ لَهُم: «تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذينَ يُعْتَبَرُونَ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُم، وَعُظَمَاءَهُم يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِم.

أَمَّا أَنْتُم فلَيْسَ الأَمْرُ بَيْنَكُم هكَذا، بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُم عَظِيمًا، فلْيَكُنْ لَكُم خَادِمًا.

ومَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلَ بيْنَكُم، فَلْيَكُنْ عَبْدًا لِلْجَمِيع؛

لأَنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَم، بَلْ لِيَخْدُم، ويَبْذُلَ نَفْسَهُ فِداءً عَنْ كَثِيرين».

الموعظة

إن كنت تظن نفسك عملاقاً كبيراً، تستطيع أن ترى ما لا يراه الأقزام من حولك، حتى أنك لا ترى الأقزام أنفسهم، جرّب أن تنحني وترفع قزماً وتضعه على أكتافك، سيرى أكثر منك، وأبعد مما كنت ترى أنت العملاق..!!

يعني أن لا أحد على الإطلاق هو عملاق كامل، أو عملاق بما يكفي. هذا لأن كل واحد وواحدة منا، في كثير من الأحيان، ينظر إلى نفسه أنه يرى ويفهم ويستطيع أن يصنع ما لا يستطيع الآخرون صنعه.

إن نظرتنا تضيق جداً عندما نُركّز على ذواتنا، ونعتبر أنفسنا مركزاً لمن هم حولنا. بخلاف إن كنا نوسع نظرتنا، عندها ندخل فيما يسمى النسيان الذاتي، وهذا من شأنه أن يجعلنا نسلط الضوء على الهدف أكثر مما نسلط الضوء على أنفسنا لنتباهى ونفتخر بما سنحصل عليه. وهذا ما بدأت به رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل قورنتس اليوم: "لا يَحْسُنُ بِكُم أَنْ تَفْتَخِرُوا! أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَمِيرِ يُخَمِّرُ العَجْنَةَ كُلَّهَا؟".

التطلعات التي يحملها الإنسان أكبر منه، وعليها يبني عالمه، الذي غالباً ما يكون افتراضياً، أي هو في وادٍ والعالم في وادٍ آخر. هذا ما حصل للتلاميذ كلهم.

في المشهد السابق (10: 32-34) ، يتحدث يسوع عن محاكمته ومعاناته وموته وقيامته. إنه على وشك دخول القدس ومواجهة شيوخ اليهود وسطوتهم الأرستقراطية القائمة على الهيكل. وبعد هذا الحديث يدنو يعقوب ويوحنا من يسوع يسألانه أماكن سلطة مميزة في المقاعد، فيجلس واحدٌ منهما عن يمينه والآخر عن يساره. وبفعل ذلك ، يبدو أن أبناء زبدى قد فقدوا كل ما قاله يسوع وفعله، رغم أنهم يدركون أن التمجيد (أي الآلام) ينتظر يسوع، ومع ذلك تطلعوا إلى السلطة التي أظهرها في خدمته واعتبروا أنها ستؤدي إلى شيء كبير ، ربما إلى حكم ملكي ، فبدأوا يتآمرون للاستفادة من ذلك، وليس هم وحدهم بل العشرة البقية أيضاً. وهذا ما يُفسّر غيظهم منهما. وعلى ما يبدو أن كل التلاميذ كانت لهم تطلعاتهم وكانوا في وادٍ آخر، على خلاف ما كان يصبو إليه يسوع في تعليمه.

كلمات يسوع التي أنهى بها حديثه اليوم: "لأَنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَم، بَلْ لِيَخْدُم، ويَبْذُلَ نَفْسَهُ فِداءً عَنْ كَثِيرين"، توضح ما كان يهدف إليه، وبنفس الوقت تضع خيبة أمل لدى التلاميذ الذين سمعوه، فكيف يتعاملون مع تطلعاتهم الافتراضية للسلطة، مقارنةً مع مفهوم يسوع حولها؟

لذلك هذا السؤال يصبح سؤالًا مهمًا للغاية بالنسبة لنا جميعًا ، كيف نكتفي بمجرد الاكتفاء، بالحال الذي عرضه يسوع، أي مفهوم الخدمة؟

للإجابة على هذا السؤال، أطرح ثلاث جمل: 

أولاً: يصبح الخادم عظيماً في ملكوت الله، من خلال الممارسة لنفس السبب الذي من أجله قَبِلَ أن يتبع يسوع في البداية. وهنا على يعقوب ويوحنا أن يتذكرا قول يسوع لهما: "وكذلك أيضا يعقوب ويوحنا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان. فقال يسوع لسمعان: «لا تخف! من الآن تكون صياداً للناس!" (لوقا 5: 10). ففي كل مرة نبتعد عن السبب الذي من أجله قبلنا أن نتبع يسوع، نبدأ ببناء تطلعاتنا الشخصية.

ثانياً: يصبح الخادم في ملكوت الله عظيماً، من خلال خدمة النسيان الذاتي. "ومَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الأَوَّلَ بيْنَكُم، فَلْيَكُنْ عَبْدًا لِلْجَمِيع". إن التركيز على الذات يُقَزّم الإنسان، والنسيان الذاتي يُكَبّره، يجعله عملاقاً. إذا صادفت في حياتك، أشخاصاً يفكرون كثيرًا في أنفسهم، ويعيشون لأنفسهم بشكل أساسي، يزول تقديرك في الحال لهؤلاء الناس. سواء أكان لديك نفس النوع من التركيز الذاتي أم لا، يمكنك رؤية القذى في عيونهم ، وتقلل من تقديرك لهم على الفور. إنه نفس الشيء في ملكوت الله، ولكن بطريقة أعمق. 

ثالثاً: يصبح الخادم في ملكوت الله عظيماً، ليس فقط من خلال الالتصاق أو التقرب من مصدر العظمة، إذ إن الكرامة لا تأتي من خلال مَن نلتصق بهم وهم ذوي سلطان أو مكانة رفيعة المستوى في المجتمع الذي نعيش فيه، ولكن من خلال خدمة الهدف الذي يخدمه مَن نلتصق به، وهنا علينا استبيان حقيقة مَن نتبع، فقد يكون الذي نلتصق به ونتبعه لا يخدم قضية محقة، أما مع يسوع، فنظراً إلى أن قضيته هي قضية تحرر الإنسان، فهي قضية حق، واتباعها وتبنيها وخدمتها مطلب حق. فعلى من يلتصق بالمسيح أن ينسى ذاته ويعيش من أجل الآخرين لتحريرهم، وهكذا يكون عظيماً في ملكوت الله. من هنا، كل شريعة أو قانون ما لا يهدف إلى المحبة يجب التحرر منه على الفور، وما أكثر القوانين والشرائع والمراسيم التي تصدر وتنتهك حرية الإنسان، وتهدر قيمته وكرامته في عالمنا.

علينا الاعتراف أن يعقوب ويوحنا وكل التلاميذ، قد أخطأوا في فهم يسوع، ولكن في البداية فقط، فبعد موته وقيامته وصعوده، وحلول الروح القدس في العنصرة، طفقوا يخدمون قضية الله ويعملون بإرادته، ويخدمون مشروع ملكوته في العالم، فصاروا هم العظماء الذين على أكتافهم بُنيت الكنيسة وتأسست في العالم.

ويبقى لنا في النهاية أن نسأل: هل قضية الله تعني الرسل فقط؟ ألسنا نحن امتدادهم ونحمل إرثهم من يسوع؟

لذا علينا أن نتبنى مفهوم النسيان الذاتي لنتطلع إلى الهدف الذي من أجله نحن مسيحيون، فيكون لنا حياة روحية أكمل من تلك التي امتلكها التلاميذ، أبطال الإيمان القدماء.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.