الحياة الداخلية 

أحد زيارة والدة الله إلى أليشباع  

الرسالة إلى العبرانيّين (11: 1-11) 

يا إخوَتِي، أَلإِيْمَانُ هُوَ اليَقِينُ بالأُمُورِ المَرْجُوَّة، والبُرْهَانُ لِلأُمُورِ غَيرِ المَرْئِيَّة.

وَبِهِ شُهِدَ لِلأَقْدَمِين.

بِالإِيْمَانِ نُدْرِكُ أَنَّ العَالَمِينَ أُنْشِئَتْ بِكَلِمَةٍ مِنَ الله، لأَنَّ مَا يُرى لَمْ يَتَكَوَّنْ مِمَّا هُوَ ظَاهِر.

بِالإِيْمَانِ قَرَّبَ هَابيلُ للهِ ذَبيحةً أَفْضَلَ مِن ذَبيحةِ قَايين، وبالإِيْمَانِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ بَارّ، وقَد شَهِدَ اللهُ نَفْسُهُ على قرابِينِهِ، وبِالإِيْمَانِ مَا زَالَ هَابِيلُ بَعْدَ مَوتِهِ يَتَكَلَّم.

بِالإِيْمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَي لا يَرَى المَوت، ولَمْ يُوجَدْ مِن بَعْدُ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ؛ وقَبْلَ أَنْ يُنْقَلَ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ أَرْضَى الله.

وَبِغَيْرِ إِيْمَانٍ يَسْتَحِيلُ إِرْضَاءُ الله. فَالَّذي يَقْتَرِبُ إِلى الله، علَيهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّ اللهَ مَوْجُود، وأَنَّهُ يُكافِئُ الَّذِينَ يَطْلُبُونَهُ.

بِالإِيْمانِ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ بِأُمُورٍ لَمْ تَكُنْ بَعْدُ مَرْئِيَّة، فَٱتَّقَى الله، وبَنَى لِخَلاصِ بَيْتِهِ سَفِينَة، دَانَ بِهَا العَالَم، وبالإِيْمَانِ صَارَ وَارِثًا لِلبِرّ.

بِالإِيْمَانِ أَطَاعَ إِبْرَاهِيم، لَمَّا دَعَاهُ الله، لِيَخْرُجَ إِلى المَكَانِ الَّذي كانَ مُزْمِعًا أَنْ يَرِثَهُ. فَخَرَجَ وهُوَ لا يَدرِي إِلى أَينَ يَذْهَب.

بِالإِيْمَانِ نَزَلَ في أَرْضِ المِيعَادِ كَمَا في أَرْضٍ غَرِيبَة، وأَقَامَ في خِيَامٍ مَعَ إِسْحقَ ويَعقُوبَ الوارِثَينِ معَهُ لِلوَعْدِ عَيْنِهِ،

لأَنَّهُ كانَ يَنْتَظِرُ المَدِينَةَ ذاتَ الأَسَاسَاتِ الثَّابِتَة، الَّتي صَانِعُهَا ومُبْدِعُهَا هُوَ الله.

بِالإِيْمَانِ نَالَتْ سَارَةُ العَاقِرُ هيَ أَيْضًا قُوَّةً على الإِنْجَاب، بَعْدَ أَنْ جَاوَزَتِ السِّنّ، لأَنَّهَا ٱعْتَقَدَتْ أَنَّ الَّذي وَعَدَ أَمِين.


إنجيل القدّيس لوقا (1: 39-56)

في تِلْكَ الأَيَّام (بعد البشارة بيسوع)، قَامَتْ مَرْيَمُ وَذَهَبَتْ مُسْرِعَةً إِلى الجَبَل، إِلى مَدِينَةٍ في يَهُوذَا.

ودَخَلَتْ بَيْتَ زَكَرِيَّا، وسَلَّمَتْ عَلَى إِليصَابَات.

ولَمَّا سَمِعَتْ إِلِيصَابَاتُ سَلامَ مَرْيَم، ٱرْتَكَضَ الجَنِينُ في بَطْنِها، وَٱمْتَلأَتْ مِنَ الرُّوحِ القُدُس.

فَهَتَفَتْ بِأَعْلَى صَوتِها وقَالَتْ: «مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّسَاء، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ!

ومِنْ أَيْنَ لي هذَا، أَنْ تَأْتِيَ إِليَّ أُمُّ ربِّي؟

فَهَا مُنْذُ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، ٱرْتَكَضَ الجَنِينُ ٱبْتِهَاجًا في بَطْنِي!

فَطُوبَى لِلَّتي آمَنَتْ أَنَّهُ سَيَتِمُّ ما قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ!».

فقالَتْ مَرْيَم: «تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ،

وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللهِ مُخَلِّصِي،

لأَنَّهُ نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. فَهَا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جَمِيعُ الأَجْيَال،

لأَنَّ القَدِيرَ صَنَعَ بي عَظَائِم، وٱسْمُهُ قُدُّوس،

ورَحْمَتُهُ إِلى أَجْيَالٍ وأَجْيَالٍ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَهُ.

صَنَعَ عِزًّا بِسَاعِدِهِ، وشَتَّتَ المُتَكبِّرينَ بأَفْكَارِ قُلُوبِهِم.

أَنْزَلَ المُقْتَدِرينَ عنِ العُرُوش، ورَفَعَ المُتَواضِعِين.

أَشْبَعَ الجِيَاعَ خَيْرَاتٍ، وصَرَفَ الأَغْنِياءَ فَارِغِين.

عَضَدَ إِسْرائِيلَ فَتَاهُ ذَاكِرًا رَحْمَتَهُ،

لإِبْراهِيمَ ونَسْلِهِ إِلى الأَبَد،كمَا كلَّمَ آبَاءَنا».

ومَكَثَتْ مَرْيَمُ عِندَ إِليصَابَاتَ نَحْوَ ثَلاثَةِ أَشْهُر، ثُمَّ عَادَتْ إِلى بَيتِهَا.

الموعظة

اليوم في أحد زيارة مريم العذراء إلى إليشباع (أليصابات)، يأخذنا القديس لوقا كاتب الإنجيل الثالث، إلى الحياة الداخلية حيث توجد الحقيقة بأصالتها وجوهرها.

ففي الشكل الخارجي، شابة اسمها مريم تذهب لزيارة نسيبتها العجوز إليشباع، لا شيء يُذكر، موقف عادي، أشخاص عاديون، يتحركون ويتكلمون، يلتقون فيتكلمون ولكن عن ماذا؟

فما هو في الداخل يحركهم، ويدفعهم لِلْلِقاء، ويجعلهم يحوّلون ما هو عادي إلى إعلان وجه جديد للحياة، فلم يكن الحديث عن الصحة والظروف المعيشية، بل عمّا صنع الرب بهما ولهما. فنستطيع القول بأن هذه الزيارة هي لإبراز عمل الله في كلٍ منهما.

نستطيع، إن جاز لنا، أن نتصور اختبار مريم بعد اللحظة التي قالت فيها: "ها أنا أمة للرب، فليكن لي كقولك"، فهو اختبار يملؤه الفرح بقدر ما يملؤه الشعور بالوحدة، فهي لا تستطيع أن تشارك أحداً بما حلّ بها. فهي خائفة، لا تعلم ما إذا قد تم ما قيل لها من قبل الرب أم لا، ولا تستطيع أن تُخبر أحداً، بما أنها امرأة مخطوبة لم تُؤخذ بعد إلى بيت زوجها، فقد يقولون عنها، بأقل تقدير، أنها زانية، فالشعور بالوحدة له ما يُبرره عندها، فلا يمكن مشاركة اللامعقول والخارق للطبيعة بهذه السهولة.   

هناك نافذة تستطيع أن تجعل مريم تشارك وتتكلم مع أحد، إلى حدٍ ما، يُشبهها، لا في الشكل، بل في الداخل. إنها نسيبتها، إليشباع (أليصابات). فقد سمعت من الملاك أنها "حُبلى هي أيضاً بابن في شيخوختها". هذا ما دفعها إلى الذهاب بسرعة. ولعلها في الطريق كانت تحاول ترداد الكلمات وتصفّها وتُعيد ترتيبها من جديد، فحدثٌ مثل هذا لا يعرف المرء كيف يشرحه، لأنه لا يعلم كيف من يسمعه يستقبله.

عند لقائها لنسيبتها، كل ما كانت تُحضّره لتقوله لها، ذهب طي النسيان، ولم تتفوه بكلمة مما فكرت، بل بادرتها نسيبتها بكلامٍ جعلها تُحِس بأن ما في داخلها وما صار معها مفهوم وواضح. 

فَهَتَفَتْ إليشباع بِأَعْلَى صَوتِها وقَالَتْ: «مُبارَكَةٌ أَنْتِ في النِّسَاء، وَمُبارَكَةٌ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! ومِنْ أَيْنَ لي هذَا، أَنْ تَأْتِيَ إِليَّ أُمُّ ربِّي؟

فَهَا مُنْذُ وَقَعَ صَوْتُ سَلامِكِ في أُذُنَيَّ، ٱرْتَكَضَ الجَنِينُ ٱبْتِهَاجًا في بَطْنِي! فَطُوبَى لِلَّتي آمَنَتْ أَنَّهُ سَيَتِمُّ ما قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبّ!». 

وما هتاف إليشباع إلّا ذاك الإعلان لعمل الرب، وقابلته مريم، لا بتمتمات الطريق المعقدة، بل بنشيد فرحٍ هو: "تُعَظِّمُ نَفسِيَ الرَّبّ، وتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظرَ إِلى تَواضُعِ أَمَتِهِ. فَهَا مُنْذُ الآنَ تُطَوِّبُنِي جَمِيعُ الأَجْيَال...

عندما نقبل مبادرة الله بالإيمان، تندفع فينا الحياة الداخلية، وتضمحل كل تلك التعقيدات والمخاوف والأوهام، وتزول كل أسباب الفشل، فنصبح أشخاصاً منطلقين، صاعدين، مشاركين، خادمين بكل تواضع، عارفين أنّ ما فينا من حياة هو من الله.

تذهب بنا الحياة الخارجية إلى الابتعاد عن داخلنا، حيث هناك لا نجد الله. لا بد لنا من الاعتراف بعدم جدّيتنا من جهة، ومن جهة أخرى علينا أن نعترف بأن حياتنا تُبنى على الظاهر أكثر منه على الباطن. وهنا الصراع يأخذ معناه، حيث علينا أن نجاهد لاكتشاف الحياة الداخلية التي يسكنها الله.

عند عدم الالتفات إلى الداخل، لا نكتشف الله، بل نلتهي بأمور الحياة التي نعيشها، وهنا يأخذ الصراع منحى آخر، يجعلنا نبتعد عن الأصل الذي يجب أن نبني حياتنا عليه. ففقدان الله من شأنه أن يفقدنا السلام، فتصبح الحياة باهتة، نعيشها بغم وشدة.

إن لقاء الرّب لا يمكن إلاّ أن يجلب لنا الفرح، لا يمكنه أن يجلب الحزن لأنّ الربّ يحلّ في قلبنا ليحرّره، هو وحده القادر على ملء قلوبنا بالفرح، الفرح الحقيقيّ، ويعطينا سعادة رغم المصاعب، رغم المشقّات، رغم التضحيات.

لن تعيش مريم، كما نسيبتها إليشباع حياةً سهلة، فالسلوك بمتطلبات الحالة الجديدة يتخلله التضحية والألم، الفارق بينهما وبين الأخريات هو الفرح الذي يعطيهما إيّاه وجود الرّب، والثقة التي يملأ بها الرّب حياتهما. فالإيمان بالله يقبل الألم، لأن التغيير قادم، لا على الصعيد الخارجي فقط، بل بالأكثر، الداخلي. 

إن ملكوت الله في داخلكم″ (لوقا 17: 21)، يقول الرب. فكيف لا نسعى إلى الداخل لنكتشف ما فيه؟ وملكوت الله قريب، إن إلهنا هو إلهٌ يقترب، قادم إلينا، أو بالأحرى، منطلق نحونا، ليلتقي بنا، حاملاً إلينا الفرح والسلام، وحاملاً إلينا حقيقتنا، التي توازي حقيقته، فهلم معاً ننطلق، نتجه إليه، نلتقي معه في صمت القلوب، وفي وقفة الوجدان، وهناك يتحقق ملكوت الله، لأن هذا الزمن، زمن المجيء، يصرخ، ويقول: "توبوا وآمنوا، فقد اقترب ملكوت الله".

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.