يا إِخوَتِي، نَحْنُ أَيْضًا، مِنْ يَوْمَ سَمِعْنَا، لا نَزَالُ نُصَلِّي مِنْ أَجْلِكُم، ونَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَمْلأَكُم مِنْ مَعْرِفَةِ مَشِيئَتِهِ، في كُلِّ حِكْمَةٍ وفَهْمٍ روحِيّ، لِتَسِيرُوا كَمَا يَلِيقُ بِالرَّبِّ في كُلِّ مَا يُرْضِيْه، مُثْمِرينَ في كُلِّ عَمَلٍ صَالِح، ونَامِينَ بِمَعْرِفَةِ الله، مُتَقَوِّينَ كُلَّ القُوَّةِ بِحَسَبِ عِزَّةِ مَجْدِهِ، بِكُلِّ ثَبَاتٍ وطُولِ أَنَاة، وَبِفَرَحٍ شَاكِرِينَ الآبَ الَّذي أَهَّلَكُم لِلشَّرِكَةِ في مِيراثِ القِدِّيسِينَ في النُّور؛ وهُوَ الَّذي نَجَّانَا مِنْ سُلطَانِ الظَّلام، ونَقَلَنَا إِلى مَلَكُوتِ ٱبْنِ مَحَبَّتِهِ، الَّذي لَنَا فيهِ ٱلفِدَاء، أَي مَغْفِرَةُ الخَطَايَا: إِنَّهُ صُورَةُ اللهِ غَيْرِ المَنْظُور، بِكْرُ كُلِّ خَليقَة، لأَنَّهُ بِهِ خُلِقَ كُلُّ شَيءٍ في السَّمَاواتِ وعلى الأَرْض، مَا يُرَى ومَا لا يُرَى، عُرُوشًا كَانَ أَمْ سِيَادَات، أَمْ رِئَاسَات، أَمْ سَلاطِين، كُلُّ شَيءٍ بِهِ خُلِقَ وإِلَيه؛ وهُوَ قَبْلَ كُلِّ شَيء، وبِهِ يَثْبُتُ كُلُّ شَيء، وهُوَ رأْسُ الجَسَد، أَيِ ٱلكَنِيسَة. إِنَّهُ المَبْدَأ، أَلبِكْرُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، لِكَي يَكُونَ هُوَ الأَوَّلَ في كُلِّ شَيء، لأَنَّهُ فيهِ رَضِيَ اللهُ أَنْ يَسْكُنَ المِلْءُ كُلُّهُ، ويُصَالِحَ بِهِ الكُلَّ مَعَ نَفسِهِ، مُسَالِمًا بِدَمِ صَلِيبِهِ، مَا عَلى الأَرْضِ كَانَ أَمْ في السَّمَاوَات. إنجيل القدّيس لوقا (14: 7-15) لاحَظَ يَسُوعُ كَيْفَ كَانَ المَدْعُووُّنَ يَخْتَارُونَ المَقَاعِدَ الأُولى، فَقَالَ لَهُم هذَا المَثَل: «إِذَا دَعَاكَ أَحَدٌ إِلى وَلِيمَةِ عُرْس، فَلا تَجْلِسْ في المَقْعَدِ الأَوَّل، لَرُبَّما يَكُونُ قَدْ دَعَا مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْكَ قَدْرًا، فَيَأْتي الَّذي دَعَاكَ وَدَعَاهُ وَيَقُولُ لَكَ: أَعْطِهِ مَكَانَكَ! فَحِينَئِذٍ تُضْطَرُّ خَجِلاً إِلى الجُلُوسِ في آخِرِ مَقْعَد! ولكِنْ إِذَا دُعِيتَ فٱذْهَبْ وٱجْلِسْ في آخِرِ مَقْعَد، حَتَّى إِذَا جَاءَ الَّذي دَعَاكَ يَقُولُ لَكَ: يا صَدِيقي، تَقَدَّمْ إِلى أَعْلَى! حِينَئِذٍ يَعْظُمُ شَأْنُكَ فِي عَيْنِ الجَالِسِينَ مَعَكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع.» وقَالَ أَيْضًا لِلَّذي دَعَاه: «إِذَا صَنَعْتَ غَدَاءً أَوْ عَشَاءً، فَلا تَدْعُ أَصْدِقَاءَكَ، ولا إِخْوَتَكَ، وَلا أَنْسِباءَكَ، وَلا جِيرانَكَ الأَغْنِيَاء، لِئَلاَّ يَدْعُوكَ هُمْ أَيْضًا بِالمُقَابِل، وَيَكُونَ لَكَ مُكافَأَة. بَلْ إِذَا صَنَعْتَ وَلِيمَةً فٱدْعُ المَسَاكِين، وَالمُقْعَدِين، والعُرْج، وَالعُمْيَان. وَطُوبَى لَكَ، لأَنَّهُم لَيْسَ لَهُم مَا يُكَافِئُونَكَ بِهِ، وَتَكُونُ مُكَافَأَتُكَ في قِيَامَةِ الأَبْرَار». وَسَمِع أَحَدُ المَدْعُوِّينَ كَلامَ يَسُوعَ فَقالَ لَهُ: «طُوبَى لِمَنْ يَأْكُلُ خُبْزًا في مَلَكُوتِ الله!». الموعظة في إنجيل قداس الأحد الماضي وهو العاشر بعد العنصرة، رأينا يسوع يجلس قُبالة الخزانة في الهيكل يُراقب الجمع كيف يُلقون النقود في الخزانة، واليوم في إنجيل قداس الأحد الحادي عشر بعد العنصرة، "يُلاحظ يسوع كَيْفَ كَانَ المَدْعُووُّنَ يَخْتَارُونَ المَقَاعِدَ الأُولى"، وما يُلاحظ عند قراءتنا لنصيّ الإنجيل، أن يسوع ينظر كمراقب من بعيد للأمور التي كانت تجري أمامه، رغم أنه في داخل الجماعة، إلّا أنه يرى الأمور بعيون مختلفة، تدل على الخبرة في الحياة، وعندما يتكلم فهو يتكلم كمعلم حكيم، يسمو بنظرته فوق التصرفات المعتادة في مثل هذه المواقف. لاحظ يسوع أن الفريسيين يحتلّون المقاعد التي يحسبونها لهم بسبب كرامتهم. لقد شدّد يسوع مراراً على أن الفريسيين إعتادوا أن يطلبوا "الشرفيات": "الويل لكم، أيها الفريسيون. تحبّون صدور المجالس في المجامع والسلامات في الساحات العامة" (لوقا 11: 43). وعندما استفاض يسوع بكلامه في المثل الذي طرحه أمام الجمع، ركز على آداب الدعوات التي يوجهها الناس لبعضهم، وكيف عليهم أن يستقبلوها. والسؤال هنا هو: هل يهتم يسوع فعلاً لهذه التقاليد التي لا نراها غالباً، إلّا في مجتمعاتنا الشرقية، ويُريد أن يُصدر تعلمياً بخصوصها، أم أن هناك رسالة تُقرأ ما بين السطور؟ لا بأس في الإثنين معاً، أي لا بد من الآداب العامة في التعامل بين المدعوين، ولا يجب أن يحسب أحد نفسه على أنه ذو قيمة أعلى من الآخرين، وبنفس الوقت علينا أن نقرأ ما بين السطور، لنصل إلى المفهوم العام لكلام وتوجه يسوع في مسيرته. بين التسابق على المركز الأول ورفع الإنسان شعرةٌ من التمييز، مَن يُدركها، ينتصر على ذاته، ويقبل أن يجلس في المقعد الأخير، ويقوم بعمله بكل جدٍ ونشاط، فيرفع الإنسان، ويُرفع هو أيضاً معه. والعلاقة بين هذا المفهوم ويسوع قوية جداً، حيث أنه قَبِلَ أن يكون في المقعد الأخير على الصليب، مُحوّلاً ورافعاً الإنسان من أدنى مستوى إلى أعلى مستوى، وبنفس الوقت رُفع يسوع وقام. هذه المعادلة مهمة جداً، لا بل إنها محورية في إيماننا المسيحي، فلا يجب أن تبقى عاداتنا على مستوى التقاليد والأعراف، بل يجب علينا أن ندخل إلى العمق، حيث نعمل، مع يسوع، من أجل رفع شأن الإنسان ككل. فمع أن يسوع: "صُورَةُ اللهِ غَيْرِ المَنْظُور، بِكْرُ كُلِّ خَليقَة"، وأيضاً: "هُوَ رأْسُ الجَسَد، أَيِ ٱلكَنِيسَة. إِنَّهُ المَبْدَأ، أَلبِكْرُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، لِكَي يَكُونَ هُوَ الأَوَّلَ في كُلِّ شَيء"، إلّا أنه تواضع وأطاع حتى الموت على الصليب، "مُسَالِمًا بِدَمِ صَلِيبِهِ، مَا عَلى الأَرْضِ كَانَ أَمْ في السَّمَاوَات" (رسالة القديس بولس إلى أهل قولسّي (1: 9-20) في القراءة الأولى أعلاه). إن سعي الإنسان ليكون في المركز الأول وراءه تكبّر، يدفعه ليرسم هالةً حول نفسه، وبالتالي ينغلق على ذاته ويقع في الأنانية، هو يفعل ما يفعل ليُحوّل نفسه إلى بطلٍ خارق، إنه يريد أن يُعجَبَ الناس به، فتزداد نرجسيته وحبه لذاته، مما يحجب عينيه عن رؤية الآخرين الذي حوله، وهو لا ينتبه أنه يُحوّل نفسه إلى عبدٍ خارق. طريقة حياتنا تُثبت هذا التحوّل من أبطال خارقين إلى عبيد خارقين، "لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يُوَاضَع، وَمَنْ يُواضِعُ نَفْسَهُ يُرْفَع"، ففي كل مرة يسعى فيها الإنسان ليكون الأفضل بين الجميع، يدوس على الجميع، ويكون عبداً لأنانيته وكبريائه. بدل أن ينحني ويتواضع أمام الجميع ليرفعهم. المتكبر والأناني لا يقيس الأمور إلّا من منظاره، ويحكم على الآخرين حسب نظرته ومقاييسه، ولا يقبل أيّ استشارة، ويريد أن يخلق عالماً هو سيده، يُلونه بألوانه، ويشكّله بأشكاله، ولا يرضى بأن تسير الأمور إلّا على هواه. وبما أن الأنانية هي عكس المحبة، فالمطلوب هو أن نجعل المحبة مقياساً لنا، حتى يُصبح كل واحد فينا محبة، مثل الله تماماً، ليس عنده محبة بل هو محبة. لو أراد يسوع أن يُصبح بطلاً خارقاً لكان من السهل جداً تحقيق ذلك، وبالتالي لكان أصبح عبداً خارقاً. الناس من حوله طالبوه بذلك، وهم على شاكلة إبليس، ففي نص التجربة يقول المُجرب ليسوع: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزا" (متى 4: 3) وأيضاً: "إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل، لأنه مكتوب: أنه يوصي ملائكته بك، فعلى أياديهم يحملونك لكي لا تصدم بحجر رجلك" (متى 4: 6) وعلى الصليب قال شيوخ اليهود ليسوع: "يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك! إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب" (متى 27: 40). هذه وغيرها من الأمور نريدها نحن، نصدق الخوارق ونريد أن نكون أبطالاً خارقين، ولكن سرعان ما نرى أنفسنا عبيداً لأهوائنا، منقادين في الضلال، بعيدين ومتغربين عن أنفسنا، لأننا نتوهم القدرة. لنكن حكماء، على مثال معلمنا يسوع، نُميّز الطريق التي فيها يجب أن نسلك، نُعالج الطرق والوسائل التي نتعامل فيها مع بعضنا البعض في عالمنا. لنكن حكماء ونميّز أن التكبر لا يجتمع مع الإيمان، التكبر يغلق النفس، وأما الإيمان فهو يقودنا إلى الآخر، ويقود الآخر نحونا. هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا. المقعد الأخير يرفع الإنسان
الأحد الحادي عشر بعد العنصرة
رسالة القدّيس بولس إلى أهل قولسّي (1: 9-20)