هتاف الموت 

أحد الشعانين 14-4-2019 

رسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة (11: 13-25)
13يا إِخوَتِي، لَكُمْ أَقُولُ، أَيُّهَا الأُمَم: مَا دُمْتُ أَنَا رَسُولاً لِلأُمَم، فإِنِّي أُمَجِّدُ خِدْمَتِي،
14لَعَلِّي أُثِيرُ غَيْرَةَ بَنِي قَوْمي، فأُخَلِّصُ بَعْضًا مِنْهُم.
15فإِنْ كَانَ إِبْعَادُهُم مُصَالَحَةً لِلعَالَم، فمَاذَا يَكُونُ قَبُولُهُم إِلاَّ حَيَاةً مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات؟
16وإِنْ كَانَتِ البَاكُورَةُ مُقَدَّسَة، فَٱلعَجْنَةُ أَيْضًا مُقَدَّسَة. وإِنْ كَانَ الأَصْلُ مُقَدَّسًا، فَالأَغْصَانُ أَيْضًا مُقَدَّسَة.
17وإِنْ كَانَتْ بَعْضُ الأَغْصَانِ قَدْ قُطِعَتْ، وكُنْتَ أَنْتَ الزَّيْتُونَ البَرِّيَّ قَدْ طُعِّمْتَ في مَوَاضِعِهَا، فَصِرْتَ شَريكًا في أَصْلِ الزَّيْتُونِ وَدَسَمِهِ،
18فلا تَفْتَخِرْ عَلى الأَغْصَان. وَإِنِ ٱفْتَخَرْتَ فَلَسْتَ أَنْتَ تَحْمِلُ الأَصْلَ بَلِ الأَصْلُ يَحْمِلُكَ.
19ولَعَلَّكَ تَقُول: إِنَّ تِلْكَ الأَغْصَانَ قَدْ قُطِعَتْ لأُطَعَّمَ أَنَا!
20حَسَنًا تَقُول! هيَ قُطِعَتْ لِعَدَمِ إِيْمَانِهَا، وأَنْتَ بَاقٍ لإِيْمَانِكَ، فَلا تتَكَبَّرْ بَلْ خَفْ!
21فإِنْ كَانَ اللهُ لَمْ يُبْقِ عَلى الأَغْصَانِ الأَصْلِيَّة، فَلَنْ يُبْقِيَ عَلَيْكَ أَيْضًا.
22فَٱنْظُرْ إِلى لُطْفِ اللهِ وَقَسَاوَتِهِ: أَمَّا القَسَاوَةُ فَعَلَى الَّذينَ سَقَطُوا، وأَمَّا لُطْفُ اللهِ فَعَلَيْكَ أَنْتَ، إِنْ ثَبُتَّ في اللُّطْف، وإِلاَّ فَتُقْطَعُ أَنْتَ أَيْضًا.
23وهُم أَيْضًا، إِذا لَمْ يَسْتَمِرُّوا في عَدَمِ الإِيْمَان، سَوْفَ يُطَعَّمُون، لأَنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يَعُودَ فيُطَعِّمَهُم.
24فإِنْ كُنْتَ قَدْ قُطِعْتَ مِنَ الزَّيْتُونَةِ البَرِّيَّةِ الَّتي أَنْتَ مِنْهَا بِحَسَبِ الطَّبِيعَة، وطُعِّمْتَ عَلى خِلافِ الطَّبيعَةِ في زَيْتُونَةٍ جَيِّدَة، فَكَم بِالأَحْرَى هؤُلاءِ الَّذينَ هُمْ أَغْصَانٌ أَصْلِيَّة، يُطَعَّمُونَ في زَيْتُونَتِهِمِ الخَاصَّة؟
25لا أُرِيدُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، أَنْ تَجْهَلُوا هذَا السِّرّ، لِئَلاَّ تَكُونُوا حُكَمَاءَ في عُيُونِ أَنْفُسِكُم، وهوَ أَنَّ التَّصَلُّبَ أَصَابَ قِسْمًا مِنْ بَني إِسْرَائِيل، إِلَى أَنْ يُؤْمِنَ الأُمَمُ بِأَكْمَلِهِم.

إنجيل القدّيس يوحنّا (12: 12-22)
12لَمَّا سَمِعَ الجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم،
13حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصْرُخُون: «هُوشَعْنَا! مُبَارَكٌ الآتِي بِٱسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل».
14ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب:
15«لا تَخَافِي، يَا ٱبْنَةَ صِهْيُون، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكِبًا عَلى جَحْشٍ ٱبْنِ أَتَان».
16ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوع، أَنَّ ذلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعُوهُ لَهُ.
17والجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ.
18مِنْ أَجْلِ هذَا أَيْضًا لاقَاهُ الجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أَنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة.
19فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: «أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!».
20وكَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين.
21فَدَنَا هؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين: «يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع».
22فَجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وجَاءَ أَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.

الموعظة

في الشعانين. في يوم دخول السيد المسيح إلى أورشليم. هتف الشعب أوشعنا. وكان هذا الهتاف هتاف الموت.

في كل مرة يريد الشعب أن يتحرك ليغيّر من وضعه، يحتشد، يتظاهر، يصرخ. وفي أغلب الأحيان، يخرج الناس وهم لا يعرفون إلى أين يؤدي بهم قرارهم في الخروج. ولا أعتقد في الحقيقة والواقع أن لدى الشعب قراراً يستطيع من خلاله أن يتحرك. فشعب الشعانين هو هو، نفسه الذي سيتحرك ليَصلُب من رحبّ به.

تختلف نظرة الإنسان عن نظرة الله إلى الأمور إلى حدّ الخلاف. وشتان بين ما يريده الله وبين ما يريده الإنسان. فلا يفهم الإنسان ما يريده هو، فكيف يفهم ما يريده الله؟. 

نستطيع أن نسمي يوم الشعانين بيوم سوء الفهم، إذ إن إرادة شعب إسرائيل هي تنصيب ملكاً، وهو من رأوا فيه نبيّ الله وابن داود، ولولا إقامة لعازر من الموت لما تحركوا، وهدفهم أن يُخلصهم من حكم الرومان عليهم، ولإعلان الملوكية الموعود فيها، التي تُثبت، من وجهة نظرهم، أن الله أمين لمواعيده. في حين نرى الله ومن خلال ابنه يسوع المسيح، يأخذ منحى آخر، لا يُشبه نظرة شعب إسرائيل بشيء. إن سوء الفهم هذا يطالنا إلى اليوم، فنحن نخرج ونهتف أوشعنا، نصلي ونطوف مع أصوات الأبواق والجوقات، ولكن لا نقبل أن نحذو حذو يسوع المتألم والمقبل إلى الموت على الصليب.

نريد إلهاً جباراً لا يُقهر، نريده معنا في كل شيء، ولكن كما نريد نحن، نؤمن به لا كما هو، بل انطلاقاً من وثنيتنا، فكم ارتفع صراخنا إليه ليَعمي ويكسر ويشلّ الأشخاص الذين يُزعجونا في حين هو من قال: "أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم، وصلوا للمسيئين إليكم"؟.

إننا نعيش ثقافة الوهم، وخيالنا واسع جداً، ونبني على أوهامنا طموحات جمّة. المسيحيون يريدون إبراز نفوذ سطوتهم في العالم، واليهود يُحركون رأس المال ليكون هو إله الشعوب، والمسلمون يريدون جعل العالم على شاكلتهم، وكل دين من أديان الأرض، له أوهامه وطموحاته، وأما الله فله كلام آخر.

انتفض الناس على مشهد البابا فرنسيس وهو يُقبل أقدام زعماء جنوب السودان، وعلا صراخ المسيحيين قبل أي أحد، هذا لا يمثلنا، فنحن نريد مسيحية قوية، غير ذليلة، فما هذا الذل الذي يجرنا إليه البابا فرنسيس؟

إن ما فعله البابا يُشكل نموذجاً إيمانياً عميقاً، لا يفهمه سوى من فهم رسالة المسيح الحقيقية. فالبابا فعل ما كان سيفعله يسوع تماماً، فيسوع انحنى أمام أقدام تلاميذه ليغسل أدرانهم، انحنى كعبد، ولم يقبل أن يكون ملكاً.

نحن اليوم نهتف لكل شيء، وكل شيء يهتف من حولنا، وفي حال سوء الفهم، نميل إلى ومع الهتاف الأعلى. 

هتاف السلام يعلو في كل أنحاء العالم، نهتف ولا نعيش..

هتاف التسامح يعلو هو الآخر، ولا من مجيب..

هتاف الإنسانية وحقوق الإنسان يصم آذاننا، ولا حياة لمن تنادي..

أما هتاف المال والشهوة واللهو وطمس الحقائق، وعيش الفوضى، ودعس الشعوب.. فالكل يسمع ويستجيب..

ماذا نهتف في هذا الزمن؟ وإلى من؟

إن كنتم تريدون الهتاف لله، فاهتفوا الصمت، فليعلو هذا الهتاف. فإن من يريد أن يكون مع الله يعمل عمل الله. ولا يطلب من الله أن يأخذ بمطالبه، من يؤمن بالله يصمت أمامه. وإن كان لنا كلمة نريد أن تصل إلى أحد على المستوى البشري، فلنُمحّصها أولاً، هل تناسب إيماننا، وإلاّ فلا داع لتعلو هتافاً.

إن آلام الرب يسوع كشفت، بل فضحت سوء فهمنا و أوهامنا، اتضح كم أننا نكذب على أنفسنا، واتضح أن الله ليس لديه أي كلمة سوى كلمة الصليب. فهي كلمة الفصل عنده. سيعود هذا الشعب ليهتف هتاف موته، اصلبه اصلبه، وهو لا يعلم أن موت الرب يسوع على الصليب هو في الحقيقة موته هو. وأما يسوع فخيار الموت عنده هو مَهمة يمتاز بها دوره وكل ما جاء لأجله. هو لا يريد ويمتنع عن الموت، ولكن بما أننا نُحسن صنع الصلبان، أي أننا موهوبون في خطيئتنا، قَبِل ما صَنَعَته أيدينا ليحوّله إلى ما هو عليه، أي محبة.

في هذا أحد الشعانين، نجدد الهتاف، وأعتقد أننا نجدد هتاف الموت، فإننا نعلن إيماننا ونأتي إلى الكنيسة بأبهى الحُلل والتبرج والزينة، ونذهب إلى بيوتنا، نُكمل حياتنا وكأن شيئاً لم يكن. نعود إلى سوء فهمنا وأوهامنا.

يمكننا أن نضع مقصداً نُغيّر من خلاله هتافاتنا، مقصداً يوافق حقيقة الله وحقيقتنا، مقصداً يجعلنا نفهم أن المحبة لا تمر إلا بالصليب، وأن الحياة لا تُعاش بالأنانية، ونضع كل متألم أمامنا، فنتألم معه، فيسوع المسيح لم يعبر عن آلام البشر، بل حملها في كيانه كله، واستطاع أن يصرخ بوجه الموت وقام من الموت وهتف هتافاً جديداً هو هتاف الحياة.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا