كل إنسان هو بطل قصته 

الأحد العاشر بعد العنصرة 


رسالة القدّيس بولس إلى أهل فيلبّي (4: 4-9)  

يا إخوَتِي، إِفْرَحُوا دائِمًا في الرَّبّ، وأَقُولُ أَيْضًا ٱفْرَحُوا.

لِيُعْرَفْ حِلْمُكُم عِنْدَ جَمِيعِ النَّاس: إِنَّ الرَّبَّ قَرِيب!

لا تَقْلَقُوا أَبَدًا، بَلْ في كُلِّ شَيءٍ فَلْتُعْرَفْ طِلْبَاتُكُم أَمَامَ الله، بِالصَّلاةِ والدُّعَاءِ معَ الشُّكْرَان.

وسلامُ اللهِ الَّذي يَفُوقُ كُلَّ إِدْرَاك، يَحْفَظُ قُلُوبَكُم وأَفْكَارَكُم في المَسِيحِ يَسُوع!

وبَعْدُ، أَيُّهَا الإِخْوَة، فَكُلُّ مَا هُوَ حَقّ، وكُلُّ مَا هُوَ شَرِيف، وَكُلُّ مَا هُوَ بَارّ، وكُلُّ مَا هُوَ نَقِيّ، وكُلُّ مَا هُوَ مُحَبَّب، وكُلُّ مَا هُوَ مَمْدُوح، وكُلُّ مَا فِيهِ فَضِيلَة، وكُلُّ مَا فيهِ مَدِيح، فَفِيهِ فَكِّرُوا.

وما تَعَلَّمْتُمُوهُ وتَلَقَّيْتُمُوهُ وسَمِعْتُمُوهُ مِنِّي، ورأَيْتُمُوهُ فيَّ، فإِيَّاهُ ٱعْمَلُوا. وإِلهُ السَّلامِ يَكُونُ مَعَكُم!

إنجيل القدّيس مرقس (12: 35-44)

وفِيمَا كَانَ يَسُوعُ يُعَلِّمُ في الهَيْكَلِ قَال: «كَيْفَ يَقُولُ الكَتَبَةُ إِنَّ المَسِيحَ هُوَ ٱبْنُ دَاوُد؟

ودَاوُدُ نَفْسُه قَالَ بِٱلرُّوحِ القُدُس: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: إِجْلِسْ عَنْ يَمِيني، حَتَّى أَجْعَلَ أَعْدَاءَك مَوْطِئًا لِقَدَمَيْك!

فدَاوُدُ نَفْسُهُ يَدْعُوهُ رَبًّا، فكَيْفَ يَكُونُ لَهُ ابْنًا؟». وكانَ الجَمْعُ الكَثِيرُ يُصْغِي إِلَيْهِ بِارْتِيَاح.

وكَانَ يَقُولُ في تَعْلِيمِهِ: «إِحْذَرُوا الكَتَبَةَ الَّذينَ يَرْغَبُونَ التَّجْوَالَ بِالحُلَلِ الفَضْفَاضَة، والتَّحِيَّاتِ فِي السَّاحَات،

وصُدُورَ المَجَالِسِ في المَجَامِع، ومَقَاعِدَ الشَّرَفِ في الوَلائِم،

ويَلْتَهِمُونَ بُيُوتَ الأَرَامِل، وَبِرِيَاءٍ يُطِيلُونَ الصَّلاة. هؤُلاءِ سَيَنَالُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَم!».

وجَلَسَ يَسُوعُ قُبَالَةَ خِزَانَةِ المَالِ يُراقِبُ الجَمْعَ كَيْفَ يُلْقُونَ النُّقُودَ في الخِزَانَة. وكَانَ أَغْنِيَاءٌ كَثِيرُون يُلْقُونَ نُقُودًا كَثِيرَة.

وأَتَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَة، وَأَلْقَتْ نَحَاسَتَيْن، أَي رُبْعَ فَلْس.

فَدَعَا يَسُوعُ تَلامِيذَهُ وَقَالَ لَهُم: «أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الفَقِيرَة، قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذينَ أَلْقَوا في الخِزَانَة؛

لأَنَّ جَمِيعَهُم أَلْقَوا مِمَّا فَضُلَ عِنْدَهُم، أَمَّا هذِهِ فَقَدْ أَلْقَتْ مِنْ عَوَزِهَا كُلَّ مَا كَانَ عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا».

الموعظة

يُحذر يسوع في تعليمه من رياء الكتبة " الَّذينَ يَرْغَبُونَ التَّجْوَالَ بِالحُلَلِ الفَضْفَاضَة، والتَّحِيَّاتِ فِي السَّاحَات، وصُدُورَ المَجَالِسِ في المَجَامِع، ومَقَاعِدَ الشَّرَفِ في الوَلائِم، ويَلْتَهِمُونَ بُيُوتَ الأَرَامِل، وَبِرِيَاءٍ يُطِيلُونَ الصَّلاة. هؤُلاءِ سَيَنَالُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَم!"، وعلينا نحن اليوم أن نسمع توبيخه، خصوصاً أن عالمنا بات عالم الرياء والمظاهر الخادعة، رغم وجود القلة القليلة، التي مازالت تُحافظ على البساطة الداخلية، وعلى القراءة الواضحة للذات.

الرياء يحمل دائماً الكذب، فأنْ أظهر بشكل مغاير لما أنا عليه، هو تغيير للحقيقة والواقع، وهذا الكذب يجرّ كذباً، ويوماً بعد يوم، أصبح بعيداً عن ذاتي، وغير عارف إياها، وتجري الحياة وأنا غائص في كذب من صنع يديّ، والمصيبة الكبرى تكمن في أني أصدق كذبي.

لا يسهل علينا الرجوع عن كذبة اخترعناها، ولكن إنْ أردنا ذلك، فنحن نستطيع، ونستطيع ذلك فقط إن وقفنا وقفة حق مع ذاتنا أولاً.

إن كان الكتبة رجال دينٍ، وجاء توبيخ يسوع لهم، هذا لا يعني أن رجال الدين هم فقط من يعيشون في الرياء، بل كل إنسان، أكان رجل دين أو سياسة أو صاحب سلطة ونفوذ، أو صاحب مهنة.. الخ، ما أقربنا إلى الاستعراض..!!

لكنّ الخطورة لطالما كانت في المكان الذي يُعتبر نبع الصدق، إنه الهيكل. والخطورة التي يُشكلها رياء رجال الدين كفيلة بأن تُطيح بكل شيء، فلا يعد هناك أي عتب على أحد من أولئك الذين هم من العالم، يُحاربون ليصلوا على أكتاف بعضهم متظاهرين بأنهم الأفضل في كل مجال.

إن الاتهام الخطير من يسوع للكتبة هو بأنهم يأكلون بيوت الأرامل وهم يُطيلون صلواتهم، يحملون الشجع والطمع، ووضعهم لا يسمح لهم بأن يكونوا على هذه الحال، إنهم يحتالون على الله، وبالتالي هم غير مؤمنين، بل يتخذون الصلاة كمهنة يرتزقون منها على حساب البسطاء.

قد يكون الدافع وراء التظاهر والكذب هو حب الوصول إلى المراكز المرموقة، وأحياناً كثيرة يكون في حب الثروة والجاه، وأحياناً أُخرى للظهور بدور البطل المتعفف والمثابر والشغوف، الذي لا يقبل زائحة، فنرى في هؤلاء أن النزاهة هي عنوان قصتهم، ويَقْصُون أنفسهم عن كل اعوجاج، ويتحدثون دائماً عن بطولاتهم و استقامة أخلاقهم، وقواعد تعاملهم المبدع، لكنهم وفي دواخلهم، يقولون: "يا لك من كاذب..!".

كل إنسان هو بطل قصته، أمام الآخرين يُحسن أن يُعطي الانطباع الجيد عن ذاته، وأمام نفسه هو عارٍ، وأمام الله هو مكشوف.

وهناك أشخاص هم أبطال قصتهم، وهم لا يعلمون، ينظرون إلى أنفسهم بازدراء، لا يُقدّرون ما هم عليه. من هؤلاء تلك الأرملة البسيطة التي تحدث عنها إنجيل اليوم، هذه الأرملة التي أتت إلى الهيكل لتضع في صندوق المال مالها، فوضعت قطعتين قيمتهما رُبع فلس.

هذه الأرملة هي لا شيء أمام أولئك الذين يضعون بسخاء في الصندوق، هكذا نظر إليها الجميع، أما يسوع الذي يعرف أن يلاحظ بدقّةٍ الإنسان ويدخل إلى أخفى خفاياه، لاحظ أن هذه الأرملة المسكينة، وضعت كل مالها، واعتبر أنها وضعت أكثر بكثير من أولئك الذي وضعوا كثيراً ما فاض عنهم.

لقد حوّل يسوع بساطة تلك الأرملة إلى درس كبير في معرفة الذات والعطاء بسخاء. نحن ننظر ونتطلع دائماً إلى الأكثر والأكبر والأضخم والذي يُظهر عمل بطولتنا، إلّا أننا لا ننتبه البساطة في التعاطي، تلك البساطة التي لا تبغي التصنع ولا الإبهار، إنما تفعل ما يجب عليها فعله.

لا يريد الله لباسك الفضفاض، ولا صلواتك الطويلة، ولا أموالك الكثيرة، إنه يريد منك أن تكون بالحق ومع الحق، تعرف أن تعطي ذاتك بسخاء. فأمام الصليب ظهر يسوع بمظهر المهان والمتألم أمام الجميع، لكن في القيامة لم يراه أحد، وتحت مظهر الآلام والصلب كان يختفي حبّ الله للإنسان. وبالرغم من أن الملامح تشير إلى مجرم يُعاقَب، وأن العدل أخذ مجراه، إلا أن ابن الله لبس رداء الضعف وكانت قدرة الله في خلاص الإنسان.

كان يسوع بطل قصته، رغم المظاهر التي تقول عكس ذلك، فالمظاهر تقول أن نبيّ الناصرة ومعلم الجليل المتجول قد فشل فشلاً ذريعاً، وها هو على الصليب يلاقي حتفه، وتنتهي قصته بالموت، إلا أن بطولة يسوع كانت في أنه وضع ذاته كلها بين يديّ أبيه، أعطى ذاته كلها، بكل حبّ، لله وللإنسان.

هكذا كل واحد منا يجدر به أن يتعلم بساطة القلب ويعطي ذاته، ولكن أولاً عليه أن يملك ذاته ليستطيع أن يهبها، و ليقدر على ذلك، عليه أن يتصالح مع ذاته، ويبتعد عن كل رياء، عن كل ما هو ليس عليه، يبتعد عن حب المصلحة والوصول الكاذب، ويبتعد عن أي شيء لا يستقيم مع إنسانيته، مستعداً دائماً ليكون بطلاً حقيقياً لقصة حياته، يُعلّم من خلالها، كل الأجيال القادمة، معنى الوضوح والصدق والاستقامة وعطاء الذات السخي، الذي لا يمكن أن يكون إلّا محبة.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.