هَا هُوَ حَمَلُ الله 

الأحد الأول بعد الدنح 

رسالة القدّيس بولس إلى طيطس (2: 11-15. 3: 1-15) 

يا إخوَتِي، إِنَّ نِعْمَةَ اللهِ قَدْ ظَهَرَتْ خَلاصًا لِجَمِيعِ النَّاس،

وهِيَ تُؤَدِّبُنَا لِنَحْيَا في الدَّهْرِ الحَاضِرِ بِرَزَانَةٍ وبِرٍّ وتَقْوَى، نَابِذِينَ الكُفْرَ والشَّهَوَاتِ العَالَمِيَّة،

مُنْتَظِرِينَ الرَّجَاءَ السَّعِيد، وظُهُورَ مَجْدِ إِلهِنَا ومُخَلِّصِنَا العَظِيمِ يَسُوعَ المَسِيح،

الَّذي بَذَلَ نَفْسَهُ عَنَّا، لِيَفْتَدِيَنَا مِنْ كُلِّ إِثْم، ويُطَهِّرَنَا لِنَفْسِهِ شَعْبًا خَاصًّا، غَيُورًا على الأَعْمَالِ الصَّالِحَة.

تَكَلَّمْ بِهذِهِ الأُمُورِ وَعِظْ بِهَا، ووَبِّخْ بِكُلِّ سُلْطَان. ولا يَسْتَهِنْ بِكَ أَحَد.

ذَكِّرْهُم أَنْ يَخْضَعُوا لِلرِّئَاسَاتِ والسَّلاطِين، ويُطِيعُوهُم، ويَكُونُوا مُسْتَعِدِّينَ لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِح،

ولا يُجَدِّفُوا على أَحَد، ويَكُونُوا غَيْرَ مُمَاحِكِين، حُلَمَاء، مُظْهِرِينَ كُلَّ ودَاعَةٍ لِجَميعِ النَّاس.

فَنَحْنُ أَيْضًا كُنَّا مِنْ قَبْلُ أَغبِيَاء، عَاقِّين، ضَالِّين، مُسْتَعْبَدِينَ لِشَهَواتٍ ولَذَّاتٍ شَتَّى، سَالِكِينَ في الشَّرِّ والحَسَد، مَمْقُوتِين، مُبْغِضِينَ بَعْضُنَا بَعْضًا.

ولكِنْ لمَّا تَجَلَّى لُطْفُ اللهِ مُخَلِّصِنَا، ومَحَبَّتُهُ لِلبَشَر،

خَلَّصَنَا، لا بِأَعْمَالِ بِرٍّ عَمِلْنَاهَا، بَلْ وَفْقَ رَحْمَتِهِ، بِغَسْلِ المِيلادِ الثَّاني، وتَجْدِيدِ الرُّوحِ القُدُس،

الَّذي أَفَاضَهُ اللهُ عَلينَا بِغَزَارَة، بِيَسُوعَ المَسِيحِ مُخَلِّصِنَا.

فإِذا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ، نَصِيرُ وَارِثِينَ وَفْقًا لِرَجَاءِ الحَياةِ الأَبَدِيَّة.

صَادِقَةٌ هيَ الكَلِمَة. وأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ حَازِمًا في هذِهِ الأُمُور، لِيَهْتَمَّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ أَنْ يَعْمَلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَة. فَذلِكَ حَسَنٌ ونَافِعٌ لِلنَّاس.

أَمَّا المُجَادَلاتُ الغَبِيَّة، والأَنْسَاب، والمُخَاصَمَات، والمُمَاحَكَاتُ حَوْلَ الشَّرِيعَة، فَتَجَنَّبْهَا، لأَنَّهَا غَيْرُ نَافِعَةٍ وبَاطِلَة.

أَمَّا صَاحِبُ البِدَعِ فَأَعْرِضْ عَنْهُ، بَعْدَ أَنْ تُنْذِرَهُ مَرَّةً وٱثْنَتَيْن.

وَٱعْلَمْ أَنَّ مِثْلَ هذَا الرَّجُلِ فَاسِد، خَاطِئ، قَدْ حَكَمَ على نَفْسِهِ.

ومَتَى أَرْسَلْتُ إِلَيْكَ أَرْتِمَاسَ أَو طِيخِيكُسَ، فَٱجْتَهِدْ أَنْ تَأْتِيَ إِلَيَّ إِلى نِيقُوبُولِي، لأَنِّي عَزَمْتُ أَنْ أَقْضِيَ فَصْلَ الشِّتَاءِ هُنَاك.

أَمَّا زِينَاسُ، مُعَلِّمُ الشَّرِيعَة، وأَبُلُّوس، فَجَهِّزْهُمَا بِٱعْتِنَاءٍ لِلسَّفَر، حَتَّى لا يَنْقُصَهُمَا شَيء.

وَلْيَتَعَلَّمِ المُؤمِنُونَ أَنْ يَقُومُوا بِالأَعْمَالِ الصَّالِحَة، لِيَسُدُّوا الحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّة، لِئَلاَّ يَكُونُوا بِلا ثَمَر.

يُسَلِّمُ عَلَيكَ جَمِيعُ الَّذِينَ مَعِي. سَلِّمْ على الَّذِينَ يُحِبُّونَنَا في الإِيْمَان. أَلنِّعْمَةُ مَعَكُم أَجْمَعِين!

إنجيل القدّيس يوحنّا (1: 29-41)

في الغَدِ (بعد شهادة المعمدان) رأَى يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلاً إِلَيْهِ فَقَال: «هَا هُوَ حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَم.

هذَا هُوَ الَّذي قُلْتُ فِيه: يَأْتِي ورَائِي رَجُلٌ قَدْ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلي.

وأَنَا مَا كُنْتُ أَعْرِفُهُ، لكِنِّي جِئْتُ أُعَمِّدُ بِٱلمَاء ِ لِكَي يَظْهَرَ هُوَ لإِسْرَائِيل».

وشَهِدَ يُوحَنَّا قَائِلاً: «رَأَيْتُ الرُّوحَ نَازِلاً كَحَمَامَةٍ مِنَ السَّمَاء، ثُمَّ ٱسْتَقَرَّ عَلَيْه.

وأَنَا مَا كُنْتُ أَعْرِفُهُ، لكِنَّ الَّذي أَرْسَلَنِي أُعَمِّدُ بِٱلمَاءِ هُوَ قَالَ لي: مَنْ تَرَى الرُّوحَ يَنْزِلُ ويَسْتَقِرُّ عَلَيْه، هُوَ الَّذي يُعَمِّدُ بِٱلرُّوحِ القُدُس.

وأَنَا رَأَيْتُ وشَهِدْتُ أَنَّ هذَا هُوَ ٱبْنُ ٱلله».

في الغَدِ أَيْضًا كَانَ يُوحَنَّا وَاقِفًا هُوَ وٱثْنَانِ مِنْ تَلاميذِهِ.

ورَأَى يَسُوعَ مَارًّا فَحَدَّقَ إِليهِ وقَال: «هَا هُوَ حَمَلُ الله».

وسَمِعَ التِّلْمِيذَانِ كَلامَهُ، فَتَبِعَا يَسُوع.

وٱلتَفَتَ يَسُوع، فرَآهُمَا يَتْبَعَانِهِ، فَقَالَ لَهُمَا: «مَاذَا تَطْلُبَان؟» قَالا لَهُ: «رَابِّي، أَي يَا مُعَلِّم، أَيْنَ تُقِيم؟».

قالَ لَهُمَا: « تَعَالَيَا وٱنْظُرَا». فَذَهَبَا ونَظَرَا أَيْنَ يُقِيم. وأَقَامَا عِنْدَهُ ذلِكَ اليَوم، وكَانَتِ السَّاعَةُ نَحْوَ الرَّابِعَةِ بَعْدَ الظُّهر.

وكَانَ أَنْدرَاوُسُ أَخُو سِمْعَانَ بُطْرُسَ أَحَدَ التِّلمِيذَيْن، اللَّذَيْنِ سَمِعَا كَلامَ يُوحَنَّا وتَبِعَا يَسُوع.

ولَقِيَ أَوَّلاً أَخَاهُ سِمْعَان، فَقَالَ لَهُ: «وَجَدْنَا مَشيحَا، أَيِ المَسِيح».

الموعظة

يُقدم لنا إنجيل الأحد الأول بعد الدنح إعلاناً على لسان يوحنا المعمدان: "هَا هُوَ حَمَلُ الله".

هذا الإعلان يدعونا لنكتشف معاً هوية المسيح، فنرى خطاب يوحنا المعمدان يتغيّر، حيث كان يُعلن أنه: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ" للذين كانوا يسألونه من كهنة الشعب واللاويين الذين أرسلهم اليهود للاستفسار عن هويته. وانتقل يوحنا المعمدان في خطابه ليُعلن أنه ليس المسيح، وعندما ظهر يسوع واعتمد وحلّ الروح عليه بشبه حمامة، قال يوحنا المعمدان: "هَا هُوَ حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَم. هذَا هُوَ الَّذي قُلْتُ فِيه: يَأْتِي ورَائِي رَجُلٌ قَدْ صَارَ قُدَّامِي، لأَنَّهُ كَانَ قَبْلي". 

شهادة يوحنا المعمدان عن المسيح أنه "حمل الله"، نجد لها صدى في سفر اشعيا النبي: "عومل بقسوة فتواضع ولم يفتح فاه، كحمل سيق إلى الذبح كنعجة صامتة أمام الذين يجزونها ولم يفتح فاه" (53: 7). كان هذا الكلام قبل 500 سنة من مجيء الرب يسوع المسيح، ولا نبالغ إذا قلنا أن سفر اشعيا النبي هو المحور الذي يرتكز عليه كل تاريخ الشعب القديم، حيث يُقدم سفر اشعيا الله كمحبة مُحَرِرة، وبالتالي يجعلنا نفهم أنّ علاقتنا مع الله هي علاقة فصح.

شهد يوحنا المعمدان وقال عن يسوع أنه "ابن الله"، وهذا اللقب كان يُعطى للملوك في مصر، عهد الفراعنة، وفي بابيلونيا، وفي الامبراطورية الرومانية. ويعني هذا اللّقب ملوكيّة ذات سلطان سياسي زمني. والشعب القديم يُسمّى أيضاً "ابن الله". وكانت كلّ هذه الثقافات تعتبر انّ الملك يصبح "ابن الله" في رتبة تنصيبه. وهكذا مثلاً لدى شعب الله القديم كانت رتبة التنصيب تتمّ على أساس مزمور داود الملك: "قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. سلني فأعطيك الأمم ميراثاً لك، وأقاصي الأرض ملكاً لك" (مز2: 7). ومع ذلك يتم تقديم يسوع، لا فقط، كابن الله، ولكن بالأكثر كحمل الله، وهذا كافٍ لندرك أنّ مَن نؤمن به لا تقوم سيادته على سلطان زمني ولا سياسي ولا ملوكي، بل على المحبة التي تنطلق إلى الإنسان وتنحني أمامه لترفعه، تلك المحبة التي تجعل ابن الله حَمَلَاً. 

جاء يوحنا يهيّىء طريق الرب بكرازته التي تدعونا إلى التوبة. بالغطس في الماء الذي هو العماد في الأردن. ولكن الكرازة والغطس هما فقط استعداد لمجيء يسوع. لم نعد فقط أمام صوت صارخ في البرية، بل أمام الكلمة الذي صار بشراً. ولم نعد أمام عماد الماء بل أمام عماد الروح.

 لا يهتم الإنجيلي يوحنا بتفاصيل عماد يسوع بقدر ما يُشدد على شهادة يوحنا المعمدان أمام تلاميذه: "هَا هُوَ حَمَلُ الله"، وهذا اللقب لا يتّخذ كامل معناه إلاّ إذا قابلناه مع خبر الآلام: في هذا الخبر يُسلِم يسوع الروح ساعة تُذبح حملان الفصح.

كانت تُذبح حملان الفصح لإحلال السلام بين المتخاصمين، ولكي يُكفّر الشعب عن خطاياه، رغم أنّ الفصح الأوّل الذي أقامه الشعب العبراني، يُمثّل صورة الانطلاق إلى ما يريده الله في حياتهم. فدم الحمل الذي كان يُرشّ على عتبات الأبواب، كان العلامة التي يعرف بها الله خاصته، ويعرف بها الشعب إلهه.

اليوم، كما في السابق، الإنسان يحتاج أن يصنع السلام. فعالم اليوم في أزمة: جوع، حروب، عنف، إرهاب، أزمة اقتصادية الخ. ونحن نصرخ وننادي لعل أحداً يسمعنا لينقذنا. وعالم يوحنا المعمدان كان في أزمة: هناك غزو اليونان وثقافتهم الفلسفية، و احتلال الرومان وبطش الملك هيرودس إلى ما هنالك من لا سلام. 

ينتظر الإنسان من الله أن يحلّ السلام بشكل قاطع، أن يتدخل بشكل مباشر، ويأتي جواب الله بيسوع المسيح، لا الملك ولا السيد ولا السياسي، وإنما يسوع المسيح الحمل.

إنّ الحمل الفصحي. كان في البدء علامة أو صورة عن الخروج الكبير من مصر، فرمز فيما بعد إلى خلاص إسرائيل. ننتقل هنا من الصور إلى الواقع الفدائي بموت يسوع في يوم الفصح، ساعة كانوا يذبحون الحملان في الهيكل. نقول في صلواتنا: "المسيح هو الحمل الحقيقي الذي يرفع خطيئة العالم". وبهذه الكلمات ندرك أن خطيئة العالم هي العقبة الأكيدة أمام إحلال السلام. لذلك نرى يسوع يُقدم ذاته ذبيحة سلامية لله، ذبيحة شكر وغفران، بها يُعاد للإنسان سلامه وكرامته. وهنا نجد انتصاراً لهذا الحمل الفصحي، ونتذكّر الحمل المنتصر في سفر الرؤيا. 

لقد صار هذا الحمل، الأسد المنتصر الذي يقود مؤمنيه إلى حرب الأزمنة الأخيرة (التي نعيشها اليوم) ضدّ كل قوى الشّر، ويتغلّب عليها. بعد هذا يستعيد وداعته ولطفه خلال أعراسه مع أورشليم السماوية. وفي النهاية، انتصر الله على الشّر بواسطة الحمل. ففي وداعة يسوع قوّة خلاصية لا نجدها في "قوى تحرير" حَلُمَ بها اليهود في عصره.

لا يسعنا اليوم، ونحن في خضم معارك الحياة الصعبة، الداخلية والخارجية، إلّا أن نستقبل حمل الله يسوع المسيح، نأخذ على عاتقنا أن نكون حملاناً نقدم ذواتنا على مذابح الرب قرباناً حياً، ليصبح كل واحد منا، مسيحاً آخر، نكمل ما بدأ به الرب يسوع، وبذلك نكون علامة محبة الله في عالم اللّاحبّ هذا.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.