السراج الحامل للنور 

عيد دخول الربّ إلى الهيكل 


رسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة (9: 30-33، 10: 1-4) 
يا إِخوَتِي، مَاذَا نَقُول؟ إِنَّ الأُمَمَ الَّذِينَ لَمْ يَسْعَوا إِلى البِرِّ قَدْ أَدْرَكُوا البِرّ، أَيْ البِرَّ الَّذي هُوَ مِنَ الإِيْمَان.
أَمَّا إِسْرَائِيلُ الَّذي سَعَى إِلى شَرِيعَةِ البِرّ، فَلَمْ يَبْلُغْ شَرِيعَةَ البِرّ.
لِمَاذَا؟ لأَنَّهُ لَمْ يَسْعَ إِلى البِرِّ بِالإِيْمَانِ بَلْ بِالأَعْمَال. فَعَثَرُوا بِحَجَرِ العَثْرَة،
كَمَا هوَ مَكْتُوب: «هَا إِنِّي أَضَعُ في صِهْيُونَ حَجَرَ عَثْرَةٍ، وصَخْرَةَ شَكٍّ، فَمَنْ يُؤْمِنُ بِهِ لا يُخْزَى».
أَيُّهَا الإِخْوَة، إِنَّ بُغْيَةَ قَلْبي وتَضَرُّعِي إِلى اللهِ مِنْ أَجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَخْلُصُوا.
فأَنَا أَشْهَدُ لَهُم أَنَّ فيهِم غَيْرَةً لله، وَلكِنْ بِدُونِ مَعْرِفَةٍ صَحيحَة.
فقَدْ جَهِلُوا بِرَّ الله، وحَاوَلُوا أَنْ يُثْبِتُوا بِرَّ أَنْفُسِهِم، فَلَمْ يَخْضَعُوا لِبِرِّ الله؛
لأَنَّ غَايَةَ الشَّرِيعَةِ إِنَّمَا هِيَ المَسِيح، لِكَي يَتَبَرَّرَ بِهِ كُلُّ مُؤْمِن.


إنجيل القدّيس لوقا(2: 22-35)
ولَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِير يُوسُفَ ومَريَمَ بِحَسَبِ تَورَاةِ مُوسَى، صَعِدَا بِهِ إِلى أُورَشَلِيمَ لِيُقَدِّماهُ للرَّبّ،
كمَا هُوَ مَكْتُوبٌ في شَرِيعَةِ الرَّبّ: «كُلُّ ذَكَرٍ فَاتِحِ رَحِمٍ يُدْعَى مُقَدَّسًا لِلرَّبّ»،
ولِكَي يُقدِّمَا ذَبِيحَة، كَمَا وَرَدَ في شَرِيعَةِ الرَّبّ: «زَوجَيْ يَمَام، أَو فَرْخَيْ حَمَام».
وكانَ في أُورَشَلِيمَ رَجُلٌ ٱسْمُهُ سِمْعَان. وكانَ هذَا الرَّجُلُ بَارًّا تَقِيًّا، يَنْتَظِرُ عَزَاءَ إِسْرَائِيل، والرُّوحُ القُدُسُ كانَ عَلَيْه.
وكانَ الرُّوحُ القُدُسُ قَدْ أَوْحَى إِلَيْهِ أَنَّهُ لَنْ يَرَى المَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبّ.
فجَاءَ بِدَافِعٍ مِنَ الرُّوحِ إِلى الهَيْكَل. وعِنْدَما دَخَلَ بِٱلصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاه، لِيَقُومَا بِمَا تَفْرِضُهُ التَّورَاةُ في شَأْنِهِ،
حَمَلَهُ سِمْعَانُ على ذِرَاعَيْه، وبَارَكَ اللهَ وقَال:
«أَلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ بِسَلام، أَيُّهَا السَّيِّد، بِحَسَبِ قَولِكَ،
لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتا خَلاصَكَ،
أَلَّذِي أَعْدَدْتَهُ أَمَامَ الشُّعُوبِ كُلِّهَا،
نُوْرًا يَنْجَلي لِلأُمَم، ومَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيل!.»
وكانَ أَبُوهُ وأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا يُقَالُ فِيه.
وبَارَكَهُمَا سِمْعَان، وقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ: «هَا إنَّ هذَا الطِّفْلَ قَدْ جُعِلَ لِسُقُوطِ ونُهُوضِ كَثِيرينَ في إِسْرَائِيل، وآيَةً لِلخِصَام.
وأَنْتِ أَيْضًا، سَيَجُوزُ في نَفْسِكِ سَيْف، فتَنْجَلي خَفَايَا قُلُوبٍ كَثيرَة».

الموعظة

نحتفل في مثل هذا اليوم، الثاني من شهر شباط (فبراير) من كل عام بعيد دخول الربّ إلى الهيكل، وهذا العيد يأتي بعد أربعين يوماً من عيد ميلاد الرب يسوع المسيح في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول. وطبعاً هذا التقليد الطقسي وضعه آباء الكنيسة، كمحطات، تجعلنا نتمحور حول حدث يسوع المسيح الخلاصي بما أنه هو مركز حياتنا.

 قد نرى أن هذا العيد يُعيدنا إلى الوراء، خصوصاً بعد عيشنا عيد الدنح والآحاد التي تأتي بعده، حيث أن الأحداث الطقسية تأخذنا مباشرة لنرى يسوع كبيراً بعمر الثلاثين، ومع ذلك فإن الكنيسة تُعيدنا إلى الوراء لتضع أمامنا حدثاً ومعنى يصبّ في عمق الحياة الروحية.

أتى يوسف ومريم ليُقدما يسوع الطفل إلى الهيكل، و هَمُّهُما العمل بمتطلبات الشريعة بحرفيتها، مثلهم مثل باقي الآباء في جيلهم. فكانت الشريعة، في العهد القديم، تطلب من المرأة أن تتقدّم إلى الهيكل من أجل تنقيتها. بعد أربعين يوماً لولادة الصبي (80 يوماً لولادة البنت). تأتي إلى الهيكل ومعها حَمَل أو زوجا يمام أو زوجا حمام. هذا ما كان يقوم به والدا الولد. كما قدّمت حنّة، أم صموئيل، ابنها للرب طوال أيام حياته (1 صم 1: 28). لكن يظهر لهما ما لم يكن في الحسبان، أناس يستقبلون الطفل كمن طال انتظاره، أناس مؤمنون فعل فيهم الانتظار فعله، فكانوا أُمناء له.

سمعان الشيخ يصرخ "أَلآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ بِسَلام، أَيُّهَا السَّيِّد، بِحَسَبِ قَولِكَ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتا خَلاصَكَ..."، و"حنّة النبيّة، بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ" (لو 3: 38).  لقد بدا يسوع ذاك الآتي ليحقّق الأزمنة الأخيرة. وهؤلاء المؤمنون هم كلهم مساكين الرب وفقرائه. عاشوا السهر والانفتاح على الله. والذين يُشبهونهم سَيَعرفون أن يَرَوا في يسوع الخلاص المُقدّم إلى الوثنيّين.

المفاجئة التي ظهرت عند تقدمة يسوع إلى الهيكل على يد سمعان الشيخ، تُخالف الواقع، فالشريعة توصي بأن يُقدَم الولد إلى الله، كتعبير عن الانتماء إلى الله، من جهة، وإلى الجماعة المؤمنة من جهة أُخرى. أما مع يسوع، فنرى أن الله هو الذي يُقدّم ابنه إلى الإنسان، يريد أن ينتمي له، ويكون بين يده، يحمله على ذراعيه.

في الحقيقة نحن نفعل ذلك في الواقع، لكنّ ما نفعله يقف على الشكل والرمز أكثر من الجوهر والسلوك. نحن نحمل يسوع، ابن الآب، عبر حملنا للشمعة، هذا ما تدلّ عليه الشمعة التي نباركها في هذا اليوم، فهو النور الآتي إلى العالم، لُنير كل إنسان، وبالتالي نُصبح نحن هذا السراج الذي يحمل النور. والكهنة في تقدمة القداس، يحملون يسوع، ابن الآب، على أيديهم، ويقولون: "هذا هو حمل الله". إننا نفعل تماماً ما فعله سمعان الشيخ، نحمل يسوع، ونصرخ هذا هو خلاصنا.

مع تقدمة يسوع إلى الهيكل، يُقدم لنا الله الخلاص: "نُوْرًا يَنْجَلي لِلأُمَم، ومَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيل"، وعلى ما يبدو أن مريم هنا تدلّ على شعب إسرائيل الجديد، ففي شخص يسوع جَابَه شعب إسرائيل الإنقسام، والخيار الضروري: هل يكون مع الله ضد يسوع، أو يكون مع الرب يسوع ويفهموا الله على طريقته؟ وستكون مريم في قلب هذا التمزّق. فالسيف الذي سيَطعن قلب يسوع حسب إنجيل يوحنا (19: 34)، سيُحطّم أيضاً قلب أمّه. ستمرّ هناك في الموت لتولد من جديد: إنها إسرائيل الجديد مع التلميذ الذي كان يسوع يحبّه (يو 19: 16- 27).

يتجسد الله، ويُقدَّم إلى الهيكل، وتنكشف حقيقته، وحقيقته تخص كل واحد وواحدة منا، فمضمون هذه الحقيقة هو الخلاص، ويتجلى الخلاص في اقتراب الله من الإنسان، فإلهنا ليس متعالٍ، ليس فوق، إنه هنا بين أيادي الناس، ولا يكتشفه إلّا من يحمله على ذراعيه وفي قلبه، أما من كان يحمل العالم في قلبه فلن يستطيع أن يكتشف حقيقته، والذي يُريد أن يستقبل الله في حياته لا بد له أن يخرج من ذاته، أن يتألم، أن يجوز سيف في قلبه، مثل مريم. 

هكذا كان يسوع بين يدي مريم، وهو طفل، وهو على الصليب، ومن الطفولة حتى الصليب تعلمت مريم أن تولد من جديد، وأن تفتح قلبها لاستقبال الخلاص الآتي من الله. تعلمت مريم أن تُعطي يسوع وهي التي حملته في قلبها، قبل أحشائها ويديها، رغم أن أمومتها كانت تطالبها بإبقاء يسوع لها، تحت جناحيها، لكن الطاعة لله الذي كَرّسَتْ له ذاتها، جعلتها تتذكر يوم قال يسوع لها وليوسف:"أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟" (لو 2: 49)، لقد فهمت أن يسوع قد أتاها من الله.

على مثال مريم ويوسف وسمعان الشيخ وحنّة النبيّة، وكل الآباء الذين سبقونا، فلنستقبل الله ونحمله في قلوبنا، نسلك بحسب وجوده فينا، فنكون ذاك السراج الحامل للنور، نضيء للجالسين في الظلمة بنور الرب، شمس البر الذي لا تغيب، والنور الذي لا ظلام فيه، والنهار الذي لا ليل له. 

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا