الحياة في الله 

أحد الموتى المؤمنين 

رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل قورنتس (15: 50-58) 

لكِنِّي أَقُولُ هذَا، أَيُّهَا الإِخْوَة: لا يَسْتَطِيعُ اللَّحْمُ والدَّمُ أَنْ يَرِثَ مَلَكُوتَ الله، ولا الفَسَادُ يَرِثُ عَدَمَ الفَسَاد.

هَا إِنِّي أَكْشِفُ لَكُم سِرًّا: لَنْ نَرْقُدَ جَمِيعُنا، بَلْ جَمِيعُنا سَنَتَحَوَّل،

في لَحْظَةٍ، في طَرْفَةِ عَيْن، عِنْدَ البُوقِ الأَخِير؛ لأَنَّهُ سَيُهْتَفُ بِالبُوق، فَيَقُومُ الأَمْوَاتُ بِغَيْرِ فَسَاد، ونَحْنُ سَنَتَحَوَّل.

فَلا بُدَّ أَنْ يَلْبَسَ هذَا الفَاسِدُ عَدَمَ الفَسَاد، ويَلْبَسَ هذَا المَائِتُ عَدَمَ المَوْت !

وحِينَ يَلْبَسُ هذَا الفَاسِدُ عَدَمَ الفَسَاد، ويَلْبَسُ هذَا المَائِتُ عَدَمَ المَوْت، حِينَئِذٍ تَتِمُّ الكَلِمَةُ المَكْتُوبَة: «لَقَدِ ٱبْتُلِعَ المَوْتُ في الغَلَبَة!

أَيْنَ غَلَبتُكَ، يَا مَوْت؟ يَا مَوْتُ، أَيْنَ شَوْكَتُكَ ؟».

إِنَّ شَوْكَةَ المَوْتِ هِيَ الخَطِيئَة، وقُوَّةَ الخَطِيئَةِ هِيَ الشَّرِيعَة.

فَالشُّكْرُ للهِ الَّذي يُعْطِينَا الغلَبَةَ بِرَبِّنَا يَسُوعَ المَسِيح!

إِذًا، يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاء، كُونُوا رَاسِخِين، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِين، مُتَقَدِّمِينَ عَلَى الدَّوَامِ في عَمَلِ الرَّبّ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُم لَيْسَ بِبَاطِلٍ أَمَامَ الرَّبّ.

إنجيل القدّيس لوقا (12: 32-40)

قالَ الربُّ يَسوعُ: «لا تَخَفْ، أَيُّها القَطِيعُ الصَّغِير، فَقَدْ حَسُنَ لَدَى أَبِيكُم أَنْ يُعْطِيَكُمُ المَلَكُوت.

بِيعُوا مَا تَمْلِكُون، وَتَصَدَّقُوا بِهِ، وٱجْعَلُوا لَكُم أَكْيَاسًا لا تَبْلَى، وَكَنْزًا في السَّماوَاتِ لا يَنفَد، حَيْثُ لا يَقْتَرِبُ سَارِق، ولا يُفْسِدُ سُوس.

فَحَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكُم، هُنَاكَ يَكُونُ أَيْضًا قَلْبُكُم.

لِتَكُنْ أَوْسَاطُكُم مَشْدُودَة، وَسُرْجُكُم مُوقَدَة.

وَكُونُوا مِثْلَ أُنَاسٍ يَنْتَظِرُونَ سَيِّدَهُم مَتَى يَعُودُ مِنَ العُرْس، حَتَّى إِذَا جَاءَ وَقَرَع، فَتَحُوا لَهُ حَالاً.

طُوبَى لأُولئِكَ العَبِيدِ الَّذينَ، مَتَى جَاءَ سَيِّدُهُم، يَجِدُهُم مُتَيَقِّظِين. أَلحَقَّ أَقُولُ لَكُم: إِنَّهُ يَشُدُّ وَسْطَهُ، وَيُجْلِسُهُم لِلطَّعَام، وَيَدُورُ يَخْدُمُهُم.

وَإِنْ جَاءَ في الهَجْعَةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الثَّالِثَة، وَوَجَدَهُم هكذَا، فَطُوبَى لَهُم!

وٱعْلَمُوا هذَا: إِنَّهُ لَوْ عَرَفَ رَبُّ البَيْتِ في أَيِّ سَاعَةٍ يَأْتِي السَّارِق، لَمَا تَرَكَ بَيْتَهُ يُنقَب.

فَكُونُوا أَنْتُم أَيْضًا مُسْتَعِدِّين، لأَنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ يَجِيءُ في سَاعَةٍ لا تَخَالُونَها!».

الموعظة

"الشكر لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح، فكونوا يا أخوتي راسخين غير متزعزعين، متقدمين على الدوام في عمل الربّ، عالمين أن تعبكم ليس بباطلٍ أمام الربّ". هكذا ختم القديس بولس رسالته الأولى إلى أهل قورنتس، وفي الحقيقة هذه الكلمات ما هي إلا نداء رجاء ترددّ صداه منذ أيام الآباء في العهد القديم واستمر في أيام آبائنا الرسل في زمن الكنيسة الأولى، وما زلنا حتى اليوم نسمع هذا النداء ونردده، إما في صلواتنا وعلى منابر كنائسنا، وإما في جلساتنا المجتمعية، وخصوصاً عندما نرى أن الحياة تُغلق أبوابها أمام وجوهنا، فنَصرُخ "الله يفرج".

نحن نؤمن بأن الله هو المُحرِّر - المُخلّص، كما كان آباؤنا، ونرفع مثلهم أدعية وصلوات شكرٍ لله، على أمور لم تتحقق بعد، فالرجاء هو رجاء المستقبل، والمستقبل الذي ننتظره هو الحياة الأبدية، التي أُحِّب أن أسميها: الحياة في الله.

الحياة في الله هي موضوع رجائنا. فلسنا نترجى القيامة لنحيا لأنفسنا بل لآخر، لله. ونحيا في الآخر، في الله. هذا ما نجده في حياتنا، أقلّه عندما يعيش آباؤنا فينا، حيث نكون نحن استمراريتهم في هذه الحياة، ونحن بدورنا نستمر في أولادنا، أو في الأعمال التي تبقى من بعدنا.

من خلال هذا المفهوم نستطيع أن نفهم نداء الاستعداد الذي نادى به يسوع في إنجيل اليوم: "فَكُونُوا أَنْتُم أَيْضًا مُسْتَعِدِّين، لأَنَّ ٱبْنَ الإِنْسَانِ يَجِيءُ في سَاعَةٍ لا تَخَالُونَها". هذا النداء لا يمكننا أن نفهمه على أنه نوع من أنواع الشروط أو التهديد، وإنما نستطيع أن نفهمه إنطلاقاً من فكرة يسوع المُعلّم، فهذا المعلّم يضع لنا آلية تحقيق الرجاء، ليس بالنسبة لله، وإنما بالنسبة لنا نحن.

الله لم يتوانى أبداً في أن يحيا، إن صح التعبير، في الإنسان، الله حيّ في الإنسان ولأجل الإنسان، ولكن يبقى على الإنسان أن يحيا في الله ولأجله، فكيف يكون هذا؟.

رجاء الحياة في الله محوره الأمانة، وحيث لا أمانة لا حياة. إن الله يستغلّ الزمن والتاريخ ليقودنا إلى اكتشاف حبّه. فتلاميذ يسوع الأولون لم يتعرّفوا إلى مدى رسالته إلا شيئاً فشيئاً و من خلال عيش هذه الرسالة. والسهر في نظرهم لا يعني التعلّق بالماضي المجيد، بل الانفتاح على المستقبل: نتقبل التطلّعات الجديدة التي يجعلنا يسوع نكتشفها بكلمته وأعماله. فالأمانة المفتوحة على المستقبل هي ما نسمّيه حقاً الرجاء.

إذاً الأمانة تستوجب السهر والاستعداد، الله لا يعود عن مخطّطاته. وهذا ما يؤسّس أمانتنا. لكن علينا أن نقبل بأننا لا نعرف إلا جزءاً ممّا أراده الله في مخطّط حبّه بالنسبة إلى كل واحد منا. في الحقيقة، لا الشبان الذين يتزوجون، ولا الوالدون الذين يتقبّلون الطفل، ولا الرهبان الذين يكرّسون حياتهم بالنذور الرهبانية، يعرفون بالتدقيق مدى التزامهم وإلى أين يقودهم هذا الالتزام. ولكنهم يعرفون ما يكفيهم ليثقوا بالله وبالمستقبل الذي يهيّئه لهم. فلا يجب أن تكون أمانتهم انغلاقاً على ما حلموا به حين انطلقوا. ففي الصفاء والصدق تجاه التزامهم، تصبح هذه الأمانة انفتاحاً على كل ما يريد الله أن يضع في مدى حياتهم. وكل هذا هو أمانة للمستقبل وتقبّل للرجاء.

من هنا نرى أن كلام الإنجيل عن الاستعداد لا يخص الموتى الذين انتقلوا، وإنما يخص الأحياء القابعين تحت وطأة صعوبات الحياة وتحدياتها، لذا فالبرغم من كل هذه الصعوبات نثبت في الأمانة، ولكي نثبت في الأمانة علينا أن نسهر ونكون مستعدين لكل عمل صالح، فالرب يأتي في ساعة لا نتوقعها، يأتي في ظروف الحياة اليومية.

كل هذا الرجاء يتجلّى في الدعوة إلى عدم الخوف "لا تَخَفْ، أَيُّها القَطِيعُ الصَّغِير، فَقَدْ حَسُنَ لَدَى أَبِيكُم أَنْ يُعْطِيَكُمُ المَلَكُوت"، وهذا وعدٌ من الله، يشرح كل الوعود التي نراها في العهد القديم، فقد تجلّت وعود الله في صورٍ مختلفة، وبأشكال مثل الطعام والتحرر من العبودية وأرض الميعاد وما إلى هنالك، إلا أن الوعد الذي يختفي تحت هذه الأشكال ما هو إلا الله نفسه، هو الحياة وهو الملكوت.

لهذا، وإنْ كنا اليوم نتذكر ونصلي لأمواتنا المؤمنين الذي سبقونا، إلا أننا في الحقيقة نقف، بإيمان ورجاء، أمام الله، الذي هو موضوع إيماننا ورجائنا، فلنقبل إذاً هذا الكنز الذي لا يفنى، وحيث يكون كنزنا هناك يكون قلبنا أيضاً، فلا نتعلق في كنوز الدنيا، وكأن لنا فيها حياة، بل نثبت بالذي أحبنا، ونضع كل ثقتنا بأن الحياة الحقيقية لا يمكن أن تكون إلا فيه ومعه وبه. (فيه = الآب، معه = الابن، به = الروح القدس). 

 هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.