الصوم عُرس التحوّل 

الأحد الأوّل من الصوم 

رسالة القدّيس بولس إلى أهل رومة (13: 11-14، 14: 1-8) 

وإِنَّكُم لَعَالِمُونَ في أَيِّ وَقْتٍ نَحْن: لَقَدْ حَانَتِ السَّاعَةُ لِتَسْتَيْقِظُوا مِنَ النَّوْم! لأَنَّ الخَلاَصَ أَقْرَبُ إِلَيْنَا اليَوْمَ مِمَّا كَانَ يَوْمَ آمَنَّا.

لَقَدْ تَنَاهَى اللَّيلُ وٱقْتَرَبَ النَّهَار. إِذًا فَلْنَطْرَحْ أَعْمَالَ الظُّلْمَة، ونَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّور.

وَلْنَسْلُكْ سُلُوكًا لائِقًا كَمَا في وَضْحِ النَّهَار، لا في القُصُوفِ والسُّكْر، ولا في الفُجُورِ وَالفَحْشَاء، ولا في الخِصَامِ والحَسَد،

ولا تَهْتَمُّوا بِالجَسَدِ لِقَضَاءِ شَهَوَاتِهِ، بَلِ ٱلْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ المَسِيح!

ومَنْ كَانَ ضَعِيفًا في الإِيْمَانِ فَٱقْبَلُوه، ولا تُحَاكِمُوهُ عَلى آرَائِهِ.

فَهُنَاكَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ كُلِّ شَيء، أَمَّا الضَّعِيفُ في الإِيْمَانِ فَيَأْكُلُ البُقُول.

فالَّذي يَأْكُل، عَلَيْهِ أَلاَّ يَحْتَقِرَ مَنْ لا يَأْكُل؛ والَّذي لا يَأْكُل، عَلَيْهِ أَلاَّ يَدِينَ مَنْ يَأْكُل، لأَنَّ اللهَ قَدْ قَبِلَهُ!

فأَنْتَ مَنْ تَكُون، يَا مَنْ تَدِينُ خَادِمَ غَيْرِكَ؟ فَإِنْ يَثْبُتْ أَوْ يَسْقُطْ فهُوَ لِرَبِّهِ! وَلكِنَّهُ سَيَثْبُتُ لأَنَّ الرَّبَّ قَادِرٌ أَنْ يُثَبِّتَهُ!

وهُنَاكَ مَنْ يُمَيِّزُ بَيْنَ يَوْمٍ وَيَوْم، وآخَرُ يُسَاوِي بَيْنَ الأَيَّامِ كُلِّهَا: فَلْيَبْقَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلى يَقِينِهِ في رأْيِهِ الخَاصّ.

فَمَنْ يَهْتَمُّ بِيَوْمٍ مُعَيَّنٍ فَلِلرَّبِّ يَهْتَمّ، ومَنْ يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ يَأْكُل، لأَنَّهُ للهِ يَشْكُر؛ ومَنْ لا يَأْكُلُ فَلِلرَّبِّ لا يَأْكُل، وللهِ يَشْكُر.

فَمَا مِنْ أَحَدٍ يَحْيَا لِنَفْسِهِ، وَمَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ لِنَفْسِهِ.

فإِنْ نَحْيَ فَلِلرَّبِّ نَحْيَا، وإِنْ نَمُتْ فَلِلرَّبِّ نَمُوت. إِذًا فَإِنْ نَحْيَ وَإِنْ نَمُتْ فَنَحْنُ لِلرَّبّ.

إنجيل القدّيس يوحنّا (2: 1-11)

في اليَوْمِ الثَّالِث، كَانَ عُرْسٌ في قَانَا الجَلِيل، وكَانَتْ أُمُّ يَسُوعَ هُنَاك.

ودُعِيَ أَيْضًا يَسُوعُ وتَلامِيذُهُ إِلى العُرْس.

ونَفَدَ الخَمْر، فَقَالَتْ لِيَسُوعَ أُمُّهُ: «لَيْسَ لَدَيْهِم خَمْر».

فَقَالَ لَهَا يَسُوع: «مَا لِي ولَكِ، يَا ٱمْرَأَة؟ لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْد!».

فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخَدَم: «مَهْمَا يَقُلْ لَكُم فَٱفْعَلُوه!».

وكَانَ هُنَاكَ سِتَّةُ أَجْرَانٍ مِنْ حَجَر، مُعَدَّةٌ لِتَطْهيِر اليَهُود، يَسَعُ كُلٌّ مِنْهَا مِنْ ثَمَانِينَ إِلى مِئَةٍ وعِشْرينَ لِيترًا،

فقَالَ يَسُوعُ لِلْخَدَم: «إِملأُوا الأَجْرَانَ مَاءً». فَمَلأُوهَا إِلى فَوْق.

قَالَ لَهُم: «إِسْتَقُوا الآنَ، وقَدِّمُوا لِرَئِيسِ الوَلِيمَة». فَقَدَّمُوا.

وذَاقَ الرَّئِيسُ المَاءَ، الَّذي صَارَ خَمْرًا - وكانَ لا يَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ هُوَ، والخَدَمُ الَّذينَ ٱسْتَقَوا يَعْلَمُون - فَدَعَا إِلَيْهِ العَرِيسَ

وقَالَ لَهُ: «كُلُّ إِنْسَانٍ يُقَدِّمُ الخَمْرَ الجَيِّدَ أَوَّلاً، حَتَّى إِذَا سَكِرَ المَدعُوُّون، قَدَّمَ الأَقَلَّ جُودَة، أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ أَبْقَيْتَ الخَمْرَ الجَيِّدَ إِلى الآن!».

تِلْكَ كَانَتْ أُولَى آيَاتِ يَسُوع، صَنَعَهَا في قَانَا الجَلِيل، فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ.

الموعظة

في الأحد الأول من الصوم الكبير، تقرأ الكنيسة السريانية الأنطاكية، إنجيل عرس قانا الجليل. وتحتفل برتبة المسامحة ودهن الرأس بالزيت. الأمر الذي يدفعنا لنتساءل عن معنى هذا وما هو الرابط بين الآية الأولى التي صنعها يسوع، التي هي عرس قانا، والغفران والمسامحة ودهن الرأس بالزيت والصوم بشكل عام.

في البداية علينا أن نُقّر بالصعوبة الموجودة في فهم إنجيل عرس قانا الجليل، فعلى ما يبدو أن يوحنا الإنجيلي، لم يهتم في سرد تفاصيل العرس، فمن هو العريس ومن هي العروس؟ لا نعرف. ولماذا نَفَدَت الخمر؟ أيضاً لا يُبيّن السبب. كان الخبر يتمحور حول يسوع الذي يتدخل ليَسُدّ النقص الموجود في هذا العرس، ونهاية الخبر تدلّنا على الهدف: "فَأَظْهَرَ مَجْدَهُ، وآمَنَ بِهِ تَلامِيذُهُ"، إذاً إيمان التلاميذ هو الهدف، وإظهار مجد يسوع هو الموضوع، حيث يكشف المسيح عن ذاته. 

يتكلم العهد الجديد أكثر من مرة عن موضوع العريس. فمثلاً، العذارى العشر اللواتي ينتظرن العريس، وأيضاً عندما يُنتقد يسوع وتلاميذه بأنهم لا يصومون، يُجيب بأنه طالما العريس بينهم لا يمكنهم أن يصوموا إلّا عندما يُرفع العريس من بينهم، حينئذٍ يصومون. وهنا في عرس قانا سوف يصوموا بما أن الخمر قد نَفَدَت.    

في رمزية إنجيل يوحنا، مائدة العرس هي تفصيل له معنى. و رؤيا يوحنا، آخر سفر في العهد الجديد، ينتهي "بعرس الحمل"، الأمر الذي  يدعونا لنفهم أن هذا العرس ما هو إلّا عرس المسيح مع البشرية.

ليس مهماً أن نُثبت أنّ يسوع بارك سر الزواج من خلال حضوره عرس قانا الجليل، هذا المعنى صبيانيٌ جداً، لأنه يكفي أن نسمع يسوع يتكلم عن الزواج، عندما يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً، حتى نعرف أن الزواج هو صورة محسوسة وملموسة لحقيقة ضمنية أو خفية، هي ارتباط الله بالإنسان.

لهذا عرس قانا الجليل يفتح المجال لنفهم دور يسوع كله، وبحسب الإنجيلي يوحنا، كل حياة يسوع هي عرسٌ، حيث يريد أن يرتبط بالبشرية التي مثّلتها مريم، فمريم مثّلت شعب العهد القديم وترأست شعب العهد الجديد، هنا ندخل في عمق الكتاب المقدَّس. دعا يسوع أمَّه "امرأة" لأنَّها المرأة الجديدة، تجاه حوَّاء المرأة القديمة. هذه حملت الخطيئة إلى العالم، ومريم أيضًا حملت الخلاص. بدأت فيه منذ الآن وسوف تكمِّله قرب الصليب. هناك أيضًا يدعو يسوع أمَّه "امرأة". ولكنَّ شتَّان بين نداء ونداء. فعند الصليب صارت هذه المرأة أمَّ جميع الذين يحبُّون يسوع. 

ما الذي حصل لمريم-الشعب أو البشرية؟ مرَّت في "الساعة"، ساعة الموت. فعند الصليب انتقلت مريم من المرأة القديمة إلى المرأة الجديدة. هناك كانت واقفة وقفة القيامة وهي التي رافقت ابنها وصارت التلميذة الأولى. فلا قيامة بدون موت، ولا مجد بدون صلب وآلام. ذاك هو عرس يسوع مع أحبَّائه.

نعود لنفهم الرابط بين عرس قانا والصوم. 

في عرس قانا الموضوع كله يتجلّى في تحويل الماء إلى خمر، وكلمة تحويل أو تحوّل هي المفصل، الأمر الذي نجده أيضاً في الصوم، حيث أن مسيرة الصوم تهدف إلى التوبة، وما التوبة إلّا ذاك التحوّل على يد الله. أن أجعل الله يحوّلني إليه. إذا لم نقرأ الإنجيل انطلاقاً من هذه الفكرة فإننا نضيع في صبيانيات المعاني، وتصبح حياتنا مادية بشكل مرعب، لأنه عندها سنطلب من الله أن يبارك مأكلنا ومشربنا فقط ويرزقنا الأمور الدنيوية. ولكن المطلوب هو أن يتغيّر الإنسان، أن يعيش في أعماق الله، فلا يتحوّل إلّا على يديه، ولا يدع أحداً يحوّله إلى ما لا يجب أن يكون عليه. 

من جهة أُخرى يَسُدُّ يسوع النقص الموجود في العرس، ليس لديهم خمر، وما وجود الأجران الستة إلّا لتدل على حالة النقص الموجودة لدى شعب العهد القديم، فعدد ستة قريبٌ جداً لعدد سبعة، بفارق واحد، هذا يجعلنا نُدرك أن الحياة لا تكتمل بدون الله، ورقم سبعة في الكتاب المقدس يدل على الكمال. وفي الصوم هناك مسيرة كمال تعبر في النقص، فالانقطاع عن المأكل والمشرب ما هو إلّا صورة لانقطاع أكبر وأعمق عن الماديات و الدنيويات، وفي الوقت عينه، هو صورة للامتلاء ولكن من الله، فلا يُفيد الانقطاع أو نقص الموارد في الصوم دون أن نمتلئ من الله، أو دون أن ندع الله يملأ حياتنا بحضوره فيها.

ومن جهة أُخرى أيضاً، يرتبط الصوم بالمغفرة، فالخطيئة هي تماسٌ مباشر مع الآخر، وهي رفض العلاقة معه، وبمعنى أدق، هي عدم الحبّ. قلتُ أنّ عرس قانا يرتبط بعرس الحمل، ويتوّج هذا العرس على الصليب، حيث أننا نجد كمال الحبّ "اغفر لهم يا أبتاه..". 

ونجد أيضاً إعادة خلق العالم، فصورة الماء المسكوب في الأجران الستة، تأخذنا إلى سفر التكوين الإصحاح الأول حيث نقرأ أن "الأرض كانت خالية وخاوية وروح الرب يُرفرف على وجه الغمر (المياه)..."، والماء علامة موت في الكتاب المقدس، والله يريد أن يحوّل هذا الموت إلى حياة، ولماذا خمر؟ لأن الخمر هو علامة ارتباط الجماعة وفرحها، وهو علامة الإثمار، ونتذكر سويةً كلام يسوع عن الكرمة: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان.."، فإذاً كل فرد هو غصن في الكرمة، عليه أن يُثمر، وبما أننا جماعة، نُقدم ثمرنا كعطية واحدة، نعصر ثمارنا، علامة الموت لأجل الآخر، فنلقى الفرح.

في النهاية، عرس قانا، آية أولى، سيتبعها آيات ومعجزات، كلها تتحدث عن التحوّل من الموت إلى الحياة، والصوم هو ذاك التحوّل من الموت الحياة، من موت الخطيئة إلى الحياة في الله. فلنُسلّم الله حياتنا، ليحوّلنا ويرفعنا إليه، فلا نخشى الموت، بل نعبره، لتكون الحياة فينا أفضل وبوفرة.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.