الحياة تأتي من الله 

أحد مولد يوحنا 


رسالة القدّيس بولس إلى أهل غلاطية (4: 19-27) 

يَا أَوْلادِيَ الَّذِينَ أَتَمَخَّضُ بِكُم ثَانِيَةً حتَّى يُصَوَّرَ المَسِيحُ فيكُم!
كُنْتُ أَوَدُّ أَنْ أَكُونَ الآنَ حَاضِرًا عِنْدَكُم، وأُغَيِّرَ لَهْجَتِي، لأَنِّي مُحْتَارٌ في أَمْرِكُم!
قُولُوا لي، أَنْتُمُ الَّذِينَ تُرِيدُونَ أَنْ تَكُونُوا في حُكْمِ الشَّرِيعَة، أَمَا تَسْمَعُونَ الشَّرِيعَة؟
فإِنَّهُ مَكْتُوب: كَانَ لإِبْراهيمَ ٱبْنَان، واحِدٌ مِنَ الجَارِيَة، ووَاحِدٌ مِنَ الحُرَّة.
أَمَّا الَّذي مِنَ الجَارِيَةِ فقَدْ وُلِدَ بِحَسَبِ الجَسَد، وَأَمَّا الَّذي مِنَ الحُرّةِ فَبِقُوَّةِ الوَعْد.
وفي ذلِكَ رَمْزٌ: فَسَارَةُ وهَاجَرُ تُمَثِّلانِ عَهْدَين، عَهْدًا مِنْ جَبَلِ سِينَاءَ يَلِدُ لِلعُبُوديَّة، وهُوَ هَاجَر؛
لأَنَّ هَاجَرَ هيَ جَبَلُ سِينَاءَ الَّذي في بِلادِ العَرَب، وتُوافِقُ أُورَشَليمَ الحَالِيَّة، لأَنَّهَا في العُبُودِيَّةِ هيَ وأَوْلادُهَا.
أَمَّا أُورَشَليمُ العُلْيَا فَهِيَ حُرَّة، وهِيَ أُمُّنَا؛
لأَنَّهُ مَكْتُوب: «إِفْرَحِي، أَيَّتُهَا العَاقِرُ الَّتي لَمْ تَلِدْ؛ إِنْدَفِعِي بِالتَّرْنِيمِ وَ ٱصْرُخِي، أَيَّتُهَا الَّتي لَمْ تَتَمَخَّضْ؛ لأَنَّ أَولادَ المَهْجُورَةِ أَكْثَرُ مِنْ أَولادِ المُتَزَوِّجَة».

إنجيل القدّيس لوقا (1: 57-80)
تَمَّ زَمَانُ إِليصَابَاتَ لِتَلِد، فَوَلَدَتِ ٱبْنًا.
وسَمِعُ جِيرانُهَا وأَقَارِبُها أَنَّ الرَّبَّ قَدْ عَظَّمَ رَحْمَتَهُ لَهَا، فَفَرِحُوا مَعَهَا.
وفي اليَوْمِ الثَّامِنِ جَاؤُوا لِيَخْتِنُوا الصَّبِيّ، وسَمَّوْهُ بِٱسْمِ أَبِيهِ زَكَريَّا.
فأَجَابَتْ أُمُّهُ وَقالَتْ: «لا! بَلْ يُسَمَّى يُوحَنَّا!».
فقَالُوا لَهَا: «لا أَحَدَ في قَرابَتِكِ يُدْعَى بِهذَا ٱلٱسْم».
وأَشَارُوا إِلى أَبِيهِ مَاذَا يُريدُ أَنْ يُسَمِّيَهُ.
فطَلَبَ لَوْحًا وكَتَب: «إِسْمُهُ يُوحَنَّا!». فَتَعَجَّبُوا جَمِيعُهُم.
وٱنْفَتَحَ فَجْأَةً فَمُ زَكَرِيَّا، وٱنْطَلَقَ لِسَانُهُ، وَجَعَلَ يَتَكَلَّمُ ويُبَارِكُ ٱلله،
فَٱسْتَولى الخَوْفُ على جَمِيعِ جِيرانِهِم، وتَحَدَّثَ النَّاسُ بِكُلِّ هذِهِ الأُمُورِ في كُلِّ جَبَلِ اليَهُودِيَّة.
وكانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ بِذلِكَ يَحْفَظُهُ في قَلْبِهِ قَائِلاً: «ما عَسَى هذَا الطِّفْلُ أَنْ يَكُون؟». وكانَتْ يَدُ الرَّبِّ حَقًّا مَعَهُ.
وَٱمْتَلأَ أَبوهُ زَكَرِيَّا مِنَ الرُّوحِ القُدُس، فَتَنبَّأَ قائِلاً:
«تَبَارَكَ الرَّبُّ، إِلهُ إِسْرَائِيل، لأَنَّهُ ٱفْتَقَدَ شَعْبَهُ وٱفْتَدَاه.
وأَقَامَ لنَا قُوَّةَ خَلاصٍ في بَيْتِ دَاوُدَ فَتَاه،
كمَا تَكَلَّمَ بِفَمِ أَنْبِيَائِهِ القِدِّيسِينَ مُنْذُ القَدِيم،
لِيُخَلِّصَنَا مِنْ أَعْدَائِنَا، ومِنْ أَيْدي جَمِيعِ مُبغِضِينَا،
ويَصْنَعَ رَحْمَةً مَعَ آبَائِنَا، ويَذْكُرَ عَهْدَهُ المُقَدَّس،
ذاكَ القَسَمَ الَّذي أَقسَمَهُ لإِبرَاهِيمَ أَبِينَا، بِأَنْ يُنْعِمَ عَلَينا،
وقَدْ نَجَوْنَا مِنْ أَيْدِي أَعْدَائِنَا، أَنْ نَعبُدَهُ بِلا خَوْف،
بِالقَدَاسَةِ والبِرِّ، في حَضْرَتِهِ، كُلَّ أَيَّامِ حيَاتِنَا.
وأَنْتَ، أَيُّهَا الصَّبِيّ، نَبِيَّ العَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَسِيرُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ،
وتُعَلِّمَ شَعْبَهُ الخَلاصَ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُم،
في أَحشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا، الَّتي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا المُشْرِقُ مِنَ العَلاء،
لِيُضِيءَ على الجَالِسِينَ في ظُلْمَةِ المَوْتِ وظِلالِهِ، ويَهْدِيَ خُطَانَا إِلى طَرِيقِ السَّلام.»
وكَانَ الصَّبيُّ يَكْبُرُ ويَتَقَوَّى في الرُّوح. وكانَ في البَرارِي إِلى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيل.

الموعظة

اليوم نحن نشهد ولادة نبيّ، مهمته الأساسية المناداة بهذا الإعلان: الحياة تأتي من الله.

من المتعارف عليه أنّ الإنسان، منذ القِدم، يسعى ليجد معنىً لحياته. وارتبط معنى الحياة بالرجاء، وعلى الرجاء نمت الحياة البشرية، فالرجاء هو بشكل من الأشكال، ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه، فالإنسان يرجو ما يستطيعه، ويفقد رجاءه إن لم يقدر على الوصول إلى مبتغاه. 

هذا الرجاء الذي نتحدث عنه، ليس له علاقة ولا يشرح فضيلة الرجاء الإلهية، حيث أنّ الرجاء البشري يعتمد على القدرة، أما الرجاء كفضيلة إلهية، فهو يعتمد على قبول الله، لا كقدرة من خلالها أستطيع أن أصل إلى ما أصبو إليه، لكن كمعطي حياة، لا الحياة التي أنا أطلبها، بل الحياة التي يجب أن أكون عليها، حيث هناك تكون حقيقتي. 

يرجو الإنسان لأنه يظن أنه يقدر، فالرجاء يرتكز دائماً على قدرة، تستطيع هذه القدرة أن تجعل تحويل الوجود ممكناً. ومثالاً على ذلك، فإن سعيي لشراء سيارة هو رجاء، فأنا أستطيع أن أصل إلى امتلاك سيارة، ووجودي يختلف ويتحوّل، فحالي دون سيارة يختلف مع وجود سيارة، ولكن لكي أمتلك هذه السيارة يجب أن أشتريها، فأنا بحاجة إلى مال، والمال هنا هو القدرة، لذلك الرجاء هنا يعتمد على هذه القدرة دون غيرها، لأنها، ببساطة، هي التي تمكنني من التحوّل من شخص لا يمتلك سيارة إلى شخص يمتلك. وهناك حالات أخرى تكون فيها القدرة نجاحاً اجتماعياً، أو تقدماً علمياً، أو الحصول على السلطة السياسية، أو السفر والهجرة من بلد إلى بلد..إلخ، كل هذا بحاجة إلى رجاء ممكن، حيث إن فُقدِت القدرة فُقِد الرجاء.

إن مضمون كل رجاء هو السعي إلى التحرّر، والتحرّر هو في قلب التغيير. فالإنسان هو كائنٌ متغيّرٌ، قابل للتغيير، ويسعى دائماً ليبتعد عن الروتين الذي يوّلد الملل، فالمرجو دائماً هو تغيير الحياة.

ما علاقة هذا الكلام عن الرجاء والقدرة بمولد يوحنا المعمدان؟

إن الكتاب المقدس وكل ما جاء فيه، هو مسيرة اكتشاف طويلة لتلك القدرة القادرة على تحرير الإنسان، فكان الناس يضعون رجاءهم بما يستطيعون الحصول عليه، وكان الأنبياء يُنادون بإله يستطيع تأمين كل المسعى البشري، ولا ننكر دور الوثنية المتأصلة في شعب العهد القديم، ولا ننكر أن أصول الوثنية ممتد إلى يومنا هذا، رغم أن الله بيسوع المسيح قد قَلَبَ الموازين، وأعطى حياةً جديدة، للأسف لم يأخذها الإنسان على محمل الجدّ، لأنه يُحاول أن يصل إلى تحقيق ما يصبو إليه، لا أن يقبل حقيقته.

إن ولادة يوحنا المعمدان، هي، بالشكل الخارجي، تحقيقٌ لرجاء زكريا وأليشباع (أليصابات)، حيث أن عُقم أليشباع وشيخوختها وشيخوخة زكريا تمنعان الحياة التي أرادوها، والقدرة الوحيدة التي وصلوا إليها هي الله، بعد كل المحاولات التي لم تُجدي نفعاً من أطباء ذاك الزمان. 

ولكن اعتبار الله قدرة فقط، يحول دون عيش التحوّل الحقيقي للحياة. نتذكر سويةً في أحد بشارة زكريا، كيف يختم القديس لوقا خبر هذه البشارة بهذه العبارة: "وبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّام، حَمَلَتِ ٱمْرَأَتُهُ إِلِيصَابَات، وكَتمَتْ أَمْرَهَا خَمْسَةَ أَشْهُر، وهِيَ تَقُول: هكَذا صَنعَ الرَّبُّ إِليَّ، في الأَيَّامِ الَّتي نَظَرَ إِليَّ فِيهَا، لِيُزيلَ العَارَ عَنِّي مِنْ بَيْنِ النَّاس!". من الواضح أن الخلاصة كانت في نظرة أليشباع إلى الحدث، فالمهم عندها أن يُزال عارها من بين الناس، لأن العقم في تلك الأيام يُنظر إليه كعقوبة على خطيئة. لكن الأمر الأهم بالنسبة لثقافة شعب الله في تلك الأيام تقول بأن العقم كان فيه فقدان للرجاء المسيحاني، حيث أن كل فتاة كانت تنتظر أو يولد المسيح منها. 

وُلد يوحنا، ولم يُسموه، كما جرت العادة، على اسم أبيه زكريا، وفي حيرة ودهشة الجيران والأقارب، صرخ الأخرس زكريا بنشيد تمجيد وشكر لله، يوضّح أن ما حدث ليس تغييراً بسيطاً في حالة إنسان لم يُنجب، بل ولادة يوحنا تطال حياةً يُريدها الله نفسه للإنسان، للبشرية كلها.

صرخ زكريا، ووضّح دور المولود، وقال: 

"وأَنْتَ، أَيُّهَا الصَّبِيّ، نَبِيَّ العَلِيِّ تُدْعَى، لأَنَّكَ تَسِيرُ أَمَامَ وَجْهِ الرَّبِّ لِتُعِدَّ طُرُقَهُ،
وتُعَلِّمَ شَعْبَهُ الخَلاصَ بِمَغْفِرَةِ خَطَايَاهُم،
في أَحشَاءِ رَحْمَةِ إِلهِنَا، الَّتي بِهَا ٱفْتَقَدَنَا المُشْرِقُ مِنَ العَلاء،
لِيُضِيءَ على الجَالِسِينَ في ظُلْمَةِ المَوْتِ وظِلالِهِ، ويَهْدِيَ خُطَانَا إِلى طَرِيقِ السَّلام.
"

هذه الكلمات تُعلن بشكل كبير أن التغيير الذي كان يرجوه زكريا وامرأته، قد تحوّل إلى حياة إلهية، لأن الحياة تأتي من الله. هذا الأمر فيه انصياع لمشيئة آخر، فلم تكن مشيئة زكريا سوى الحصول على ولد، ويحيا مثله مثل باقي العائلات، إلّا أن الله له مخطط آخر، فيه يُشارك الإنسان في حياته الإلهية، وما صرخة زكريا إلّا إعلاناً منه على فهم إرادة الله بالنسبة لحياته.

 إنّ الحبل العجائبي بيوحنا، وتسميته من قبل الله واختياره ليكون نبيّاً مهيأً لمجيء المسيح، وهو في بطن أمه، كل ذلك يعني أن الحياة تأتي من الله، كل شيء من الله. بالمقابل، نستطيع أن نقول بأنّ كل واحد وواحدة منّا على غرار يوحنا المعمدان، لنا دعوة نبويّة، بمعنى أننا مدعوون لنكون شهوداً لعمل الله في حياتنا، ويعتمد ذلك على مدى تحررنا من ارتباط الأمور القادرة في حياتنا.

لذلك فلنحوّل رجاءنا، لا باعتمادنا على قدرة الأشياء، ولا على قدرتنا الشخصية، بل على قدرة الله التي ليست هي إلّا محبة، فالله لا يقدر إلّا على المحبة وبالمحبة، وليكن الله هو رجاؤنا، فنقبله، لأننا بذلك نقبل حقيقتنا.

هذه الموعظة ليست إلا نظرة من زاوية مختلفة إلى نص إنجيل اليوم، وفي كل مرة نقرأ هذا النص في المستقبل سوف ننظر من زاوية أخرى وهكذا.